منذ سقوط النظام السابق، برزت دعوات كثيرة من اجل اجراء انتخابات تراوحت بين مسؤولي الدوائر الحكومية واعضاء مجالس محلية وصولا الى انتخابات المجلس الوطني المؤقت، دون ان تـُعد اية دراسة علمية، او القيام باي جهد يذكر للتعرف على طبيعة ونتائج الانتخابات لمنصب رسمي، وتأثير ذلك على مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد.
وقد عدّ معظم المواطنين ان الانتخابات هي تجسيد للشرعية وبالتالي فهي الحل لمشاكل البلد المتفاقمة، خصوصا المشكلة الامنية، التي ربما كانت فريدة من نوعها في بلد لا يشهد –لحد الان- حربا اهلية ومع ذلك يقدم الضحايا يوميا بشكل يدعو للرثاء.
ولا يمكن الاعتراض على ان الانتخابات التي يتمخض عنها تشكيل هيئة تشريعية وسلطة تنفيذية، هي خير وسيلة لتسليم السلطة والحكم باسم الشعب. لكن المشكلة في الخطوات المعقدة لهذه الانتخابات. اذ ليست هذه العملية مجرد وضع بطاقة الترشيح في صندوق الاقتراع في يوم محدد.. والواقع ان هذه هي اخر مرحلة في العملية الانتخابية، والتي لا تمثل سوى جزء يسير منها.
فاذا اريد للانتخابات ان تؤدي الغرض المطلوب وجب ان تنفذ بالشكل الصحيح، والا فانها ستصبح بذرة لحرب اهلية حقيقية.. مع الاخذ بنظر الاعتبار ان لا مجال للخطأ والاعتذار بقلة الخبرة. ذلك ان الفائزين بالانتخابات سيصرون دوما على شرعية توليهم المناصب، مقابل اصرار معارضيهم، او منافسيهم، على فقدان هذه الشرعية. ويعلم العراقيون ان من بين الاسباب الرئيسة لتردي الوضع الامني هذه الايام انما يعود للطعن بشرعية الدولة القائمة، محليا على الاقل.
قبل فترة وجيزة صرح السيد رئيس الوزراء، الدكتور اياد علاوي، ان الانتخابات ستجرى حتى لو تخلف عنها بعض العراقيون.. واعطى ارقاما ليستدل على ان نسبة المتخلفين قليلة مقارنة بالراغبين في المشاركة. والحقيقة ان اية نسبة من المواطنين تحرم حقها في المشاركة، مهما تكن قليلة، يمكن ان تكون عاملا اساسيا في تقويض العملية برمتها. والمطلعون يعلمون انه غالبا ما تكون نتائج الانتخابات التي تجرى في جو ديمقراطي، متقاربة الى حد يصبح فيه الحسم لاصوات قليلة.
من جهة اخرى قد يكون من الصعب اقناع بعض المواطنين بالمشاركة، فهي حق خالص، ولا يجوز الزام أي مواطن على المشاركة. وفي هذه الحالة فان ذلك سيكون خيارا فرديا اتخذه المواطن بمحض ارادته. وهو امر يختلف تماما عن استثناء منطقة معينة او مدينة او محافظة من الدخول في العملية الانتخابية، تحت اية ذريعة.
ولكي نحقق انتخابات تحوز على رضا الشعب عموما، يجب ان يتم الوفاء بالمتطلبات الاساسية، ومن اهمها تبني قانون انتخابي وآلية انتخابية تلائم طبيعة المجتمع العراقي، وتضمن التمثيل السياسي المناسب لكافة شرائحه بشكل عادل. تتنوع الانظمة الانتخابية العالمية كثيرا، الا ان اكثرها شيوعا انظمة تقوم على الاغلبية واخرى تقوم على التمثيل النسبي. فانظمة الاغلبية -ببساطة- هي ان من يحصل على اغلبية الاصوات يأخذ كل شيء، سواء كانت الانتخابات بالترشيح الفردي او بالقوائم، حيث ان القائمة التي تحصل على الاغلبية تفوز بكاملها، بينما تخسر القائمة التي تنافسها بغض النظر عن عدد الاصوات التي نالتها. اما نظام التمثيل النسبي، المعمول به في اغلب الدول الديمقراطية، فيضمن نسبة من مقاعد الجمعية الوطنية مناظرة لعدد الاصوات التي تحصل عليها القوائم المتنافسة.
ان نظام الاغلبية قد يكون مناسبا لدوائر انتخابية ترشح نائبا واحدا، وتكون هذه الدوائر متجانسة الى حد كبير اجتماعيا وسياسيا، وحتى طائفيا وعرقيا. فان أي مرشح يفوز عن هذه الدائرة سيكون ممثلا لها بنفس القدر. بينما يكون نظام التمثيل النسبي مناسبا اكثر للدوائر الانتخابية الكبيرة، ومع استخدام اسلوب ترشيح القوائم، حيث يعمل على ترجمة الاصوات الى مقاعد في البرلمان بشكل يعكس تنوع الاطياف السياسية ويحافظ على وجود الاقليات وان كان -مع ذلك- يعطي الاغلبية اكثرية مقاعد البرلمان تبعا لنسبة الاصوات.
غير ان القانون الانتخابي، على اهميته، ليس العامل الوحيد لانجاح الانتخابات. فتقسيم الدوائر الانتخابية قد يكون امرا معضلا، ويغير بشكل حاسم نتيجة هذه الانتخابات. ويتوقف التقسيم على نوع النظام الانتخابي. فنظام الاغلبية يحتاج الى تقسيم البلد الى دوائر انتخابية كثيرة لاستيعاب التنوع وتحقيق اكبر قدر من التجانس في الدائرة الواحدة. ويحتاج هذا النظام الى كوادر متخصصة كبيرة وبالتالي توفير اعتمادات مالية عالية. بينما لا يقتضي النظام النسبي مثل هذا العدد، بل يمكن تقسيم البلد الى دوائر اقل عددا بحيث تسهل ادارة الانتخابات فيها، مما يخفض الكلف بشكل كبير. كما يمكن اعتبار جميع البلد دائرة واحدة، الا ان ذلك ليس بالامر المحمود العاقبة، اذا تحدثنا عن انتخابات لجمعية وطنية. ولكنه امر لا بأس به اذا كان لمنصب الرئيس مثلا، حيث يكون عدد المتنافسين فيه محدودا ومعروفا لجميع المواطنين. وسبب عدم تفضيله لانتخابات برلمانية، ان الاحزاب ستقدم قائمة بجميع مرشحيها في عموم البلاد ويسمح لها بتسمية من واحد الى عدد اعضاء الجمعية الوطنية (275 في هذه الحالة). سيقوم الناخب بالتصويت لقائمة ما قد يجهل معظم الاسماء التي تندرج فيها. وحتى في حالة ائتلاف الاحزاب ضمن قائمة واحدة فان ذلك يحرم الناخب حقه في معرفة من يصوت له، وبالتالي فان الامر يبدو وكأنه طبخة سياسية.
ومن الامور المهمة الاخرى، ضرورة وجود هيئة مستقلة للاشراف على مجمل العملية الانتخابية، وهي موجودة فعلا، وقد تم تشكيلها قبل حوالي اربعة اشهر. الا ان هذه الهئية يجب ان تدرب بشكل جيد، خصوصا بغياب الخبرة المحلية في هذا الاتجاه. كما يجب اعداد كوادر، دائمية اومؤقتة او كليهما، لادارة الانتخابات في المناطق، وتدريبها لتلافي الاخطاء التي قد تكون ذات تأثير مباشر على النتائج. كما يجب اجراء عملية تسجيل للناخبين، وليس الاكتفاء بالتعداد السكاني. حيث ان تسجيل الناخبين يعكس بشكل افضل الراغبين بالمشاركة، وبالتالي تدفع بالنتائج الانتخابية الى مستويات جيدة. بينما يكون الاعتماد الكلي على التعداد السكاني مبنيا على افتراض رغبة الجميع بالمشاركة، وهو امر غير واقعي. على ان التعداد السكاني مهم للوقوف على معلومات تتعلق ليس فقط باعداد المواطنين وانما بالمستوى الحضاري والثقافي والاقتصادي وما الى ذلك، مما يمكن ان يساعد في فهم طبيعة المجتمعات المحلية وتركيبتها السياسية، مما يؤدي الى تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل متوازن وعادل.
وفي عجالة اذكر امورا اخرى لا تقل اهمية عما سبق، منها توفير المراكز الانتخابية وحمايتها، منح الوقت الكافي للمرشحين والاحزاب للتعريف ببرامجها والدعاية الانتخابية، تثقيف مجتمع الناخبين حول مجمل العملية الانتخابية وحثهم على المشاركة، ضمان نزاهة الاقتراع وسريته، وغير ذلك مما يطول شرحه.
ومن بين جميع الامور التي اوردتها، لم يتحقق في الفترة المنصرمة غير تشكيل الهيئة الانتخابية من قبل الامم المتحدة، التي طلع علينا امينها العام، السيد كوفي عنان، ليصرح ان تأجيل الانتخابات قد يكون امرا جيدا مع استمرار الوضع الامني الراهن. فاذا اخذنا جميع العوامل اعلاه بنظر الاعتبار، فقد يكون مثل هذا التأجيل مفيدا. فما الحكمة في انتخابات متعجلة وغير مفهومة لمجتمع الناخبين؟ هل سيتم الاعتراف بنتائجها بشكل آلي؟ ماذا يمكن ان يحدث ان رفضها البعض؟ اية دوامة يمكن ان يجر البلد اليها اكثر من الدوامات التي هو فيها الان؟
اعتقد ان اجراء اية انتخابات هو عملية مماثلة لصنع طائرة، فاذا لم تتناغم جميع اجزائها عند تشغيلها، فلن نتوقع منها الطيران، وان كان شكلها الخارجي يحمل سمات الطائرة. مع ملاحظة ان الطائرة يمكن ان يعاد تصنيعها اذا فشلت في بعض التجارب، اما الانتخابات.. فهيهات.