اصدر مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء مجتمعين في السادس من تموز 2004 قانونا للطوارئ تحت اسم (قانون الدفاع عن السلامة الوطنية) والذي جاء في الاسباب الموجبة له انه صدر "للظروف الامنية الخطيرة.. وضرورة التصدي الحازم للارهابيين والعابثين بالقانون".
ولاشك ان البلاد تمر اليوم بمرحلة دقيقة وتواجه تحديات مصيرية قلما تعرضت لها بلدان اخرى في العالم. هذه التحديات تتمثل في محاولة اجهاض الديمقراطية الوليدة في العراق، وافشال التجربة التي لو كتب لها النجاح لكانت مصدر خطر كبير على الانظمة الاستبدادية المحيطة بالعراق. فاذا كان دول الجوار هي التي تلعب الدور الرئيس في تغذية العنف والارهاب في العراق، كما تكرر التصريح الرسمي بذلك، واذا كانت التجربة الديمقراطية هي المستهدفة، فان من اللازم ان تكون التشريعات منصبة بهذا الاتجاه وليس باتجاه تضييق الحريات وتركيز السلطة، الامر الذي لو استمر على هذا المنوال لعاد بالبلاد الى الوراء.. الى عصر الديكتاتورية القمعية التي كانت –تحت ذريعة الامن- تستأثر بكل السلطات وتركزها في قمة هرم الحكم.
ومن المعروف ان هناك علاقة عكسية بين الحريات والامن، فكلما كانت التشريعات منصبة باتجاه تعزيز الامن، فان ذلك يكون على حساب الحد من الحريات. ولهذا يجب عدم التوسع في استخدام الذريعة الامنية.. اذ ان كبت الحريات سرعان ما سيتحول ذاته الى عنصر مقلق للامن قد لا يكون اقل خطرا من الانفلات والحرية المطلقة.
ان قانون السلامة الوطنية التي تؤكد ديباجته انه صدر استنادا الى قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية، إنما هو انتهاك لهذا القانون. فقد ورد في الفقرة (ب) من المادة الخامسة والعشرين من قانون ادارة الدولة (وهي المادة التي يشير اليها قانون السلامة الوطنية) ان الحكومة العراقية الانتقالية تختص بـ"وضع وتنفيذ سياسة الامن الوطني، بما في ذلك انشاء قوات مسلحة وادامتها لتأمين وحماية وضمان امن البلاد والدفاع عن العراق". ومن الواضح ان النية تتجه في هذا النص الى تقوية وتعزيز الجيش لمواجهة العدوان الخارجي، وليس التمرد الداخلي او اعمال التخريب سواء كانت من قبل عراقيين او اجانب يسكون في العراق. ان مواجهة مثل هذه الاعمال التي تتعرض للامن الداخلي لا تحتاج الى اصدار قانون خاص، بل الى تطبيق القانون الموجود اصلا. وهذا يقود الى صلب المشكلة الامنية في العراق، الا وهي الضعف الواضح للاجهزة الامنية وخصوصا اجهزة الشرطة الوطنية، والى عدم تطبيق القوانين السارية بحق المجرمين، او حتى ابسط المخالفين (مثلا منع قيادة السيارات التي تكون عجلة القيادة فيها على اليمين، رغم وجود قانون صريح بذلك).
من جهة اخرى، فانه لا يمكن اصدار قانون يمنح رئيس الوزراء صلاحيات واسعة (مع امكانية تخويل صلاحياته الى قادة اخرين) بحجة ان ذلك يقع ضمن "وضع وتنفيذ سياسة الامن الوطني" التي تشير اليها المادة 25، اذ ان ذلك يُعدّ توسعا في التفسير لا مبرر له. فاذا اعتمدت تفسيرات مثل تلك، فسيكون هناك في المستقبل قوانين كثيرة استنادا الى هذه المادة التي تحدد الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية. ولفظ (حصرا) يجب ان يفسر باتجاه تحديد الصلاحيات، وليس باتجاه توسيعها.
لابد من الاقرار ان هناك حاجة ماسة مواجهة التدهور الامني في الوقت الراهن، ولكن ليس بالضرورة ان يكون تصريف جميع الامور بيد رئيس الوزراء كما تريد المادة الثالثة من قانون السلامة الوطنية ان تصرح. فقد خولت هذه المادة صلاحيات "وضع قيود على حرية المواطنين والاجانب في العراق في الجرائم المشهودة". فاذا كانت الجرائم مشهودة والتهم ثابتة، فما الحاجة الى تدخل رئيس الوزراء؟ لماذا لا يتخذ القانون مسلكه الطبيعي، فيجري احتجاز المشتبه بهم وتقديمهم الى القضاء حسب الاصول؟
ان قائمة صلاحيات رئيس الوزراء التي تنص عليها المادة الثالثة، هي قائمة مرعبة حقا، وتشمل حق احتجاز المشتبه بسلوكهم ووضع القيود على حريات الانتقال والتجوال والتجمع والتجمهر والمرور والسفر، وهي حريات ضمنها قانون ادارة الدولة. كما يمكن لرئيس الوزراء فرض حظر التجوال (وان كان لفترة قصيرة) على المنطقة التي يرى انها تشهد تهديدا للامن. ويمكنه فرض قيود على الاموال ومراقبة الطرود والرسائل البريدية والبرقيات ووسائل الاتصالات ووسائل النقل والمواصلات. وقد خبر الشعب العراقي طويلا هذه المراقبات، ولا يبدو انها كانت لاسباب مختلفة جوهريا.
غير ان اكثر هذه الصلاحيات غرابة ما ورد في الفقرة السادسة من المادة الثالثة، التي تجيز لرئيس الوزراء مراقبة اعمال ووضع الحراسات على مؤسسات المجتمع المدني، وامكانية حلها او ايقافها مؤقتا. ان هذه الصلاحيات محددة بكون تلك المؤسسات قد ثبتت صلتها بالجرائم الارهابية. ومرة اخرى، لا اجد مبررا ان يكون ذلك عن طريق رئيس الوزراء، وليس القاضي المختص ضمن الرقعة الجغرافية. ان مبدأ فصل السلطات هو احد اهم مباديء الديمقراطية، والذي يعني ان تكون السلطة القضائية مستقلة تماما عن السلطة التنفيذية. نعم.. هناك تأكيد على استحصال قرار قضائي في هذا القانون، وفي هذه الحالة فان السلطة التنفيذية يجب ان تنفذ هذا القرار. أي ان تنفيذ القرار القضائي هو واجب السلطة التنفيذية، وليس صلاحية لها.
وتنص المادة السادسة من قانون السلامة الوطنية على انه "ترتبط القوات المسلحة وقوات الطوارئ والقوات الخاصة والدفاع المدني والاجهزة الامنية والاستخباراتية والمخابراتية في المنطقة محل الطواريء برئيس الوزراء مباشرة" وهذه مخالفة صريحة لنص المادة التاسعة والثلاثون (الفقرة ب) من قانون ادارة الدولة التي تعطي رئيس الوزراء القيادة العملياتية للقوات المسلحة فقط. وهنا اشارة اخرى الى مركزية لا داعي لها. وفي الحقيقة فان الاتجاه العام لقانون السلامة الوطنية هو نحو تعزيز المركزية وتقويض اللامركزية، خلافا للمادة الثانية والخمسين من قانون ادارة الدولة التي تنص على انه "يؤسس النظام الاتحادي بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية". ومن ذلك ما ورد في المادة السابعة من قانون السلامة الوطنية التي تحدد مهمات للمحكمة الجنائية (المركزية) واخرى للمحاكم الجزائية (في المناطق على ما يبدو)، فاذا لم يكن ذلك نابع عن عدم الثقة بالقضاة المحليين، فهو بالتأكيد يصب في تكريس المركزية وتركيزا للسلطة في الحكومة (الاتحادية).
كما ان القانون لا يعطي أي دور الى حكومات الاقاليم والمحافظات (ما عدا اقليم كردستان). بل ان اكثر من هذا ان المادة التاسعة اعتبرت المجلس الوطني المؤقت (الذي يجري تشكيله حاليا)، هو (جمعية استشارية) لها الحق فقط في مراقبة تنفيذ الاجراءات، خلافا للقسم الثالث من ملحق قانون ادارة الدولة الذي يمنح المجلس الوطني حق نقض الاوامر التنفيذية باغلبية الثلثين. وفي المقابل تمنح نفس المادة من قانون السلامة الوطنية صلاحيات الغاء اجراءات رئيس الوزراء الى محكمة التمييز والمحكمة الاتحادية العليا، دون ان يكون هناك اساس لذلك في قانون ادارة الدولة. ان عكس الادوار هذا يؤدي الى تباطؤ في اتخاذ اجراءات لمنع التعسف. ان اللجوء الى القضاء يحتاج الى من يحرك الدعوى اصوليا، وتستغرق الاجراءات القضائية وقتا غير قصير. بعكس دور المجلس الوطني الذي يمكنه التفاعل سريعا مع الاحداث، واتخاذ اجراءات مناسبة في وقت قصير نسبيا. ان هذه التشريعات تطلق يد رئيس الوزراء بشكل كبير، وهو خطر على العملية الديمقراطية من ناحية الاخلال بالتوازنات الضرورية في السلطات.
غير ان قانون السلامة الوطنية لم يتعرض لحرية الاعلام بشكل مباشر، الا اذا اعتبرت مؤسساته واقعة تحت طائلة الفقرة 6 من المادة الثالثة التي اسلفنا ذكرها. كما انه شدد على تطبيق بعض الحقوق الاساسية مثل وجوب ان يمثل المتهم امام قاضي التحقيق خلال 24 ساعة (المادة الرابعة). ومنع القانون رئيس الوزراء من الغاء بعض او كل قانون ادارة الدولة (المادة الحادية عشرة)، وعدم امكانية استخدام الامر لتعطيل اجراء الانتخابات في المدة المحددة (المادة الثانية عشرة).
ان قانون السلامة الوطنية، رغم الترحاب الشعبي والرسمي الذي حظي به، هو قانون متعجل وغير مبرر وغير دستوري. ويمكن لتأثيره النفسي ان يعود بفائدة ما على الشعب العراقي، ولكن على حساب تحديد الحريات وفرض سلطة الدولة على مؤسسات المجتمع المدني، وتركيز السلطة بدلا من اشاعة اللامركزية. واغفل القانون الفدرالية تماما الا بما يتعلق بكردستان (وهو امر يبعث على الريبة).
وبالمقابل نقترح ان يتم الاعتماد اكثر على القوات المسلحة لحماية الحدود، واعطاء الدور الاساسي للمجالس المحلية والحكومات في المحافظات لمعالجة المشاكل المستعصية، من خلال دعم اجهزة الشرطة فيها ومنحها التخصيصات والمعدات المناسبة. والعمل على احلال دولة القانون، والاسراع ببناء المؤسسات الديمقراطية، فهي الضمانة الاكيدة للشعب العراقي ضد عودة التسلط والديكتاتورية.