Tuesday, May 25, 2004

كيف نبني الديمقراطية.. ولماذا؟

ربما يحمل تساؤل العنوان تناقضا ضمنيا.. فاذا كنا نفكر في طرق بناء الديمقراطية، فما الداعي لبيان ضرورتها؟ وإذا كنا نشك في هذه الضرورة فلماذا علينا التفكير في بناء الديمقراطية أصلا؟
الواقع إن الديمقراطية تكون هشة في مرحلة البناء، وتزداد صلابة مع ترسيخ مبادئها. ولذلك يحتاج بناؤها إلى الكثير من التأني في العمل، ويستغرق زمنا ليس بالقصير لإرساء مفاهيم جديدة وتغيير مفاهيم أخرى نشأت عليها أجيال متعاقبة من الشعب العراقي تحت وطأة الدكتاتورية والحكم الفردي.. وطيلة هذه المدة لن يكون للديمقراطية ثمار قريبة، بل على العكس ربما حملت عملية البناء معها الكثير من السلبيات التي تؤدي الى الشك في فائدة التطبيق، وما إذا كانت تستحق فعلا العناء. لذلك سأحاول أن ابدأ بالإجابة على التساؤل الثاني.. لماذا علينا ان نبني الديمقراطية؟
لاشك ان العراقيين عانوا طوال عقود من الزمن من أهوال حكم تسلطي فردي يصنع القرار فيه خلف أبواب مغلقة وينأى صانعوه عن المسائلة، حتى تحولت الدولة الى ساحة تجارب لقرارات فئة من غير المتعلمين والغير صالحين لتولي المسؤوليات العامة، الذين لم تكن مؤهلاتهم أكثر من قربهم من شخص (الرئيس) أو لأنهم اثبتوا ولائهم له عن طريق كبت الأصوات المعارضة بالنار والحديد إذا اقتضى الأمر. والأنكى من ذلك ان معظم هذه القرارات أصبحت تصدر عن (القائد الضرورة) شخصيا، بعد ان تلاشت المعارضة له على كافة المستويات.. وبالتالي أصبحت شطحات فكره (الملهم) نبؤات واجبة التطبيق وعلى الجميع ان يصفق لها مهما كانت النتائج المحتملة وبيلة.. حتى أن بعضها أدى إلى تقويض نظامه نفسه.
نعم.. ان الديمقراطية هي البديل عن الوضع المأساوي الذي آل اليه شعب ودولة العراق بسبب الحكم الفردي. غير ان تساؤلا آخر سرعان ما يجد طريقه. ففي دول عديدة مجاورة ليست الديمقراطية هي الخيار المطروح، بل بضعة مفاهيم منتقاة منها. فهل يجب تطبيق الديمقراطية بالمفهوم الغربي؟ وهل تصلح للتطبيق في مجتمع شرقي محافظ كالمجتمع العراقي؟
قدمتُ أن طريق تطبيق الديمقراطية كمفاهيم عليا سيكون شاقا باعتبار اننا نبدأ من الصفر (او ربما تحته) ولكننا لا نملك خيار آخر. فحتى محاولة اقتباس مفاهيم مثل مفهوم حقوق الإنسان دون أخرى مثل مفهوم الحرية الفردية، سيؤدي في النهاية الى إلغاء دور المُقتبس. وفي الدول التي تخضع لنظم حكم فردية تحاول تطبيق بعض المفاهيم بدعوى الإصلاح، إنما يكون ذلك تحت رقابة مشددة للتأكد من أن أية مساحة إضافية للحرية قد يكتسبها الشعب يجب ان لا تؤدي إلى تهديد نظام الحكم القائم. ولن تتردد قيادات هذه الدول في إيقاف أي إصلاح سيؤدي إلى مسائلة القيادة العليا، أو هز صروح السلطة وتعريضها للخطر.
وربما شعر الكثيرون، اننا قد نكون اسعد حظا إذا طبقنا نظاما مشابها للنظام المصري، او الجزائري، او حتى النظام الأردني. وكل تلك الأنظمة كانت بالمقارنة مع النظام السابق في العراق أنظمة معتدلة تستطيع ان توفر بعض الأمن والرفاهية لشعوبها. لكن المشكلة الحقيقة تكمن في ان هذه الأنظمة تأسست عبر عقود من الزمن، مرت خلالها بمراحل تحول جعلها توزان -إلى حد ما- بين الرغبة في الاحتفاظ بالسلطة وبين مصلحة الشعب، ولو في حدودها الدنيا. وقد كان بمقدور نظام صدام فسح المجال لبعض الحريات وبعض المشاركة في صنع القرار، وهو ما كان كفيلا بمنع المآسي التي حدثت من حروب وتهجير وحصار، واحتلال آخر الأمر. ولكن نرجسية صدام وعنجهيته منعته من التفكر بالنتائج بعقل منفتح.. وحدث ما حدث. فماذا علينا أن نفعل؟ أن ننصب رئيسا يكون اقل تسلطا، ولكن ليس بالضرورة أكثر ديمقراطية؟ أم أن نقيم نظاما يطبق مباديء معينة دون اخرى، مثل الانتخابات الدورية مع تقييد حرية التعبير عن الرأي؟
ومن جهة أخرى فان الشعوب في الدول مثار الجدل ليست بأحسن حالا من الشعب العراقي، لا سابقا ولا حاليا. فعنصر الأمن الذي يشكل هاجس الشعوب الأول، هو نفسه هاجس حكومات تلك الدول. فالشعوب ترغب في الأمن العام كطريق لبناء الرفاهية العامة، بينما ترغب الحكومات في الأمن لنفسها. ومتى كان هناك تهديد لأمن الناظم الحاكم، فلن يكون الأمن العام محل اهتمام كبير.
وهكذا فان انهيار نظام الحكم في العراق، برّز بشكل واضح أهمية نظام متماسك لا يكون فيه فصل بين السلطة الحاكمة والشعب، لان الحكومة تكون (من الشعب) وتعمل (لأجل الشعب) وليس لبقائها وتسلطها على حساب المصلحة العامة. وهذه هي أولى المفاهيم في النظم الديمقراطية، والتي تكرسها الانتخابات الدورية الحقيقية وغير الصورية كما هو الحال في كثير من الدول التي قد يود البعض اقتباس تجربتها.
تتضمن الديمقراطية آليات معينة تضمن تقسيم السلطات وإيجاد توازن بينها منعا لتسلط فئة او فرد، وهذه محددة بقانون أعلى (الدستور) يكون له صفة الثبوتية وان كان يمكن تعديله، إذا كانت هناك ضرورة قاهرة. ومن المباديء المهمة مبدأي سيادة القانون واستقلال القضاء. وفي جميع الدول تجد اشارات الى جميع هذه المباديء، وان كان تطبيقها صوريا فقط في الكثير منها.
ولا أريد هنا أن اسرد المباديء التي تقوم عليها الديمقراطية، ثقة بان معظم العراقيين اليوم يعلمون جلّها. ولكن ما أريده هو أن أبين كيفية جعل هذه المباديء أسسا مشتركة للعمل. فالدستور ضمانة ومرجع، ويجب أن يكتب بكثير من التمحيص وان يراجع مرات عديدة. كما يجب أن يكون الاستفتاء عليه شفافا وحرا ونزيها. يجب أن يكون لدى كل عراقي قناعة بان هذا الدستور يمثل هويته وانتماءه بقدر شعوره بأنه يمثل المصلحة الوطنية. إن شعوب العالم الديمقراطي تفخر بدساتيرها، وهو ما يجعلهم يتمسكون به.. وهذه هي أولى مراحل البناء.
ويمكن اعتبار الانتخابات بموجب الدستور المرحلة الثانية للبناء الديمقراطي. ولكن علينا أن نلاحظ مسألة مهمة هنا. فالانتخابات مهما كانت نزاهتها لا يمكن أن تضمن وصول الأصلح إلى مواقع المسؤولية. نعم، يمكن وضع الشروط والمؤهلات، ولكن لا يمكن تغيير طبيعة بعض الأفراد الجامحين إلى السلطة، والذين إذا قدر لهم التمكن منها بطريق الانتخاب دون ردعهم باليات مناسبة، فلربما ينقلبون عليها ويستأثرون بالسلطة، مما سيلحق نكسة للديمقراطية قد لا تتمكن من تجاوزها. لذلك يجب العمل على إيجاد توزان للسلطات الثلاثة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث لا يمكن لأحدها أن تنفرد بالسلطة.
إن تعدد طوائف واثنيات الشعب العراقي، والتي ربما كانت حالة متميزة في المنطقة، تجعل من الصعب إيجاد نظام متجانس على أساس الانتماء العرقي أو المذهبي. ولكن إذا اتجه التفكير إلى تشكيل تجانس يعمل لصالح المصلحة الوطنية العليا فلن يكون الأمر بهذه الصعوبة. وهذا يقتضي منا أن نفكر بمبدأ أساس في النظم الديمقراطية وهو مبدأ إمكانية التوصل إلى الحلول الوسط. وقد يعتبر البعض أن سياسة الحلول الوسط غير سليمة، باعتبار أن التسويات تعني التنازلات.. ولكن ذلك هو جوهر المشكلة، فبدون تقديم بعض التنازلات كيف يمكن التوصل إلى صيغ مرضية للجميع؟ لقد عانى الشعب العراقي، من حيث يدري أو لا يدري، من مشكلة التعنت ورفض الحلول الوسط، التي لو قدر التوصل لها لكان حاله على غير ما هو عليه الآن.
وهكذا فان الديمقراطية، بكل ما تحمله من مباديء وأسس، إنما ترجع إلى ركيزتين أساسيتين: المشاركة وإمكانية التوصل إلى حلول وسط. فالمشاركة تبدأ من صنع القرار إلى تطبيقه، من خلال الانتخابات والشفافية والمسائلة وتنمية دور وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني.. بينما يكون دور إيجاد الحلول أثناء عملية صنع القرار، عن طريق فسح المجال للرأي والرأي الأخر، واحترام حقوق الأقليات، والاهم من ذلك تقديم المصلحة الوطنية على مصلحة القوميات والجماعات والأحزاب وحتى المصلحة الشخصية.
لقد قطعت عملية بناء الديمقراطية في المجتمع العراقي شوطا كبيرا، ولازال هناك الكثير من العمل من اجل رفع البناء وزيادة تماسكه ولن يكون ذلك ممكنا إلا إذا اتفق العراقيون على ضرورة هذا البناء واقروا عن قناعة بأن الدولة الديمقراطية المؤمل إقامتها في العراق والتي ينعم أبناؤها بالمساواة والحرية والرفاهية والأمن، تستحق كل هذا العناء.