Thursday, August 30, 2012

أفكار ومقترحات نحو إصلاح إداري شامل

يدور الحديث بين الفينة والأخرى عن ضرورة إحداث إصلاح إداري جذري وشامل في دوائر الدولة العراقية. فقد أصبحت السياقات الإدارية الروتينية عبءاً كبيراً على المواطن العادي الذي يضطر إلى قضاء أيام وأسابيع في متابعة معاملات تـُعد بسيطة بالنسبة إلى الدول الأخرى، سواء في محيطنا الإقليمي أو على المستوى العالمي.
وعلى الرغم من اعتماد بعض الدوائر الحكومية إجراءات معينة بهدف التقليل من زخم المراجعات واختصار الروتين، إلا أن هذه الإجراءات سرعان ما تحولت إلى حلقة إضافية لهذا الروتين، وأضحت خطوة زائدة في تمشية المعاملات، ومنها على سبيل المثال وحدات إدخال المعلومات على الحاسوب. فبدلا من أن يتم الاعتماد على هذه الوحدات من خلال قواعد البيانات الرصينة فهي استحالت مجرد إجراء روتيني ضمن المعاملة التي تبقى نسختها الورقية هي الأصل الوحيد، ولا ينفع وجود نسخ إلكترونية في حالة فقدانها لأي سبب. وهذا يعني أن إدخال المعلومات أو التحري عنها لا يشكل سوى إضافة للروتين الإداري وليس تخفيفا عنه. فكم منا راجع دائرة ما وطلب منه مراجعة قسم الحاسبة ليجد أن الحاسبة لا تعمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي أو بسبب عطل فني أو غياب المشغل أو غير ذلك، ما يؤدي إلى توقف هذه المعاملة عند تلك المرحلة لحين تغير الوضع، في اليوم التالي أو الأسبوع التالي.
إن هذا الأمر وارد أيضا في كل من مفاصل تمشية المعاملة، ولذلك فإن التذمر منه لن يكون سوى تذمر جزئي. بيد أن هناك إجراءات أخرى ذات تأثير أشد على المُراجع، وتسبب الكثير من الضيق وضياع الوقت والجهد. ومنها طلب صحة صدور بعض الوثائق الرسمية. ففي بداية التسعينات من القرن الماضي، وفي إطار عرقلة معاملات إصدار جوازات السفر للمواطنين الذين ضاقت بهم السبل وطمحوا في الهجرة إلى الخارج من أجل إيجاد عمل يعيلون به أنفسهم وعوائلهم، أصدرت السلطات في ذلك الوقت تعليمات باستحصال كتب "صحة صدور" بعض الوثائق المطلوبة لاستصدار جواز السفر. وكان أهم تلك الوثائق هو تأييد التسريح من الخدمة العسكرية. فكان يصار إلى توجيه كتاب إلى الوحدة العسكرية التي ينتمي إليها المواطن لتأييد تسريحه بالإضافة إلى كتاب من دائرة تجنيده. وكانت هذه الكتب الرسمية ترسل مختومة بصحبة موظف مُعتمد من الجوازات، ويتم تسلم الرد عن طريق موظف مُعتمد من قبل الدوائر المعنية. وقد كان واضحا أن هذه الخطوة مجرد محاولة لعرقلة إصدار جواز السفر، حيث أن تأييد التسريح موجود في دفتر الخدمة العسكرية للمراجع.
أما اليوم فقد أصبح هذا الإجراء قياسيا من قبل معظم الدوائر، ولشتى أنواع المعاملات. فأنت كمُراجع مطالب بإثبات صحة صدور هوية الأحوال المدنية، وشهادة الجنسية، وشهادتك الدراسية، ومعظم الكتب الرسمية التي تقدمها، وحتى إجازتك المرضية الصادرة عن مستشفى حكومي. وهذا يعني أنك مُتهم بالأصل بتزوير تلك الأوراق حتى تُـثبت العكس. والعجيب أن بعض الدوائر تعطيك كتبا موجهة إلى الدوائر الأخرى لتزويدها بكتب صحة الصدور في "ظرف مغلق ومختوم". وحينما تطلع على تلك الكتب "المختومة" تدرك أن تزويرها أسهل حتى من تزوير الكتب الأصلية. فما الداعي إذاً لهذا الإجراء؟
ولست أدعي أن جميع المراجعين يقدمون أوراقا صحيحة مئة بالمئة، لكن أليس هناك قانون للتعامل مع الأوراق المزورة؟ أليس من الأفضل التحري عن بعض تلك الأوراق بين الحين والحين، فإن تبين وجود تزوير يصار إلى إحالة هذا الشخص السيئ إلى المحاكمة بتهمة التزوير في أوراق رسمية؟ علما أن هذه هي جريمة مخلة بالشرف في القانون العراقي.
وحتى على فرض أن عدد المزورين قد أصبح كبيرا  إلى درجة يصعب معها تشخيص كل حالة على حدة، فليس من الضروري اتباع هذا الإجراء مع الكل، أو على الفور. فيمكن مثلا قبول الأوراق التي يقدمها المُراجع وتمشية المعاملة الرسمية مع إرسال كتب التحري عن تلك الأوراق بالبريد الرسمي. فمن النادر أن تكون هناك معاملة لمواطن تحمل فائدة فورية وغير قابلة للاسترداد في مرحلة لاحقة. وحتى في هذه الحالة، فإن ضياع بعض الحقوق للدولة سيكون أمرا يسيرا مقارنة مع تسهيل معاملات الآلاف من المُراجعين، وتقليل زخم الدوائر، وبالتالي الحاجة إلى المزيد من الموظفين، وهي بالتأكيد خسارة كبيرة لحقوق الدولة من خلال الرواتب التي تمنح لهؤلاء الموظفين والأموال التي تنفق في إدامة الدوائر الرسمية التي تعاني  ضغطاً كبيراً من المراجعين.
ومن الأمور الأخرى التي صارت أمرا مفروغا منه في أية معاملة قضية استنساخ الوثائق الرسمية. فقد أصبح فرضا مفروضا أن تقدم نسخة ملونة لهوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية وبطاقة السكن والبطاقة التموينية مع كل معاملة مهما كانت بسيطة. وهذا الإجراء هو الآخر من مخلفات النظام السابق الذي كان يعتمد سياسة عرقلة مراجعة الدوائر الرسمية وإرهاق كاهل الناس بالمزيد من المصاريف والجهد ضمن خطة أشمل تهدف إلى جعل حياة المواطنين أكثر صعوبة، في فترة الحصار الاقتصادي، وبالتالي المتاجرة بهذه المعاناة مع الدول التي فرضت تلك المقاطعة الاقتصادية.
وفي واقع الأمر لا أجد سبباً في طلب هذه النسخ المصورة عدا ما ذكرنا. ففي سابق الزمان كانت الدوائر تعد نموذجا يملؤه المراجع تدرج فيه أرقام تلك الوثائق، ومن ثم يقوم الموظف المختص بمطابقة هذه الأرقام وتأكيد صحتها بنفسه ثم يعيدها إلى المراجع. أما اليوم فأنت تقدم الوثائق المصورة التي نادرا ما يراها احد أو يطابقها مع الأصلية، وهي ترمى إلى الأرض حال خروجك من الدائرة الرسمية. وإن اضطررت إلى العودة والمراجعة من جديد بعد فترة فإن عليك أن تقوم بتقديم النسخ المصورة من جديد، لأن من المستحيل العثور على المعاملة السابقة. فما الفائدة إذاً من طلب هذه الوثائق؟ ربما يكون العذر الوحيد هو أن يقوم الموظف المسؤول بحماية نفسه من خلال طلب نسخ مصورة عن جميع الوثائق المطلوبة لتمشية المعاملة. ففي حالة تدقيق المعاملة من قبل الجهات الرقابية، فإن موقف ذلك الموظف سوف يكون سليما، بوجود تلك النسخ التي تثبت أن المراجع قدم الوثائق المطلوبة.
وهكذا فإن زيادة الحلقات الإدارية وتضخيم إجراءات المعاملات بهدف حماية الموظفين، واستمرارا لسياسات موروثة عن النظام السابق، قد أدت إلى جعل مراجعات المواطنين أمرا في غاية الصعوبة، وأضحت الدوائر الرسمية مكتظة بالمواطنين الذين لا يجدون في الغالب مكانا للجلوس والانتظار، بينما يطلب منهم المراجعة من الشبابيك التي ربما رُكبت عليها أجهزة التكييف، ما يجعل الوقوف هناك في أيام الصيف القائظ مرهقا إلى أبعد الحدود.
وفي هذه المناسبة أود أن أعرض الطريقة التي تتم فيها مراجعة الدوائر الرسمية في الدول الغربية. فالعملية تبدأ من حجز رقم للمراجعة لدى الدخول إلى تلك الدائرة، حيث يقوم حاسوب بحساب الوقت التخميني للانتظار، ساعة أو أكثر أو أقل، ويمكنك الخروج والعودة قبل وقت قصير من حلول الموعد، أو الجلوس في الصالة الخاصة بالمراجعين التي تكون واسعة ومكيفة ومريحة. وحين يصل الدور إليك يظهر رقم المراجعة على شاشات إلكترونية وتتم المناداة عليه بمكبرات الصوت فتعرف أنه قد حان دورك. وما عليك سوى أن تملأ نموذجا يحمل المعلومات المطلوبة أثناء فترة الانتظار وتقدمها إلى الموظف المسؤول عند حلول دورك، حيث يقوم هذا الموظف بتدقيق تلك المعلومات وربما يطلب منك  تقديم الوثائق الأصلية التي يقوم بتدقيقها أصوليا ثم يعيدها إليك. وخلال دقائق بسيطة تنجز المعاملة مهما تكن. ففي تلك البلدان هناك احترام لوقت المواطن واهتمام براحته بنفس القدر الذي تحصّن الموظف من عمليات التزوير عن طريق ربط الدوائر الرسمية على اختلافها بشبكات الحواسيب المرتبطة بقواعد البيانات التي يمكن من خلالها التأكد من صحة الأوراق الرسمية.
وبغية اتباع مثل هذا النظام، يجدر بدوائرنا الرسمية المبادرة إلى حوسبة أنظمتها الإدارية بشكل جدي وليس مجرد إجراء روتيني آخر. فيمكن مثلا وضع نظام قواعد بيانات لكل المواطنين تدرج فيه هويات الأحوال المدنية وشهادات الجنسية وجوازات السفر وإجازات السوق وغير ذلك من الوثائق بحيث يمكن الولوج لهذا النظام من خلال شبكة حواسيب محصنة وعن طريق موظفين مدربين ومؤهلين لمثل هذا الإجراء. وهكذا لن تكون هناك حاجة لتقديم نسخ مصورة للوثائق أو التأكد من صحة صدورها، لأنها موجودة أصلا في قواعد البيانات تلك. وعلى الرغم من أن تطبيق هذه الخطة قد يستغرق وقتا، إلا أنه ليس بالصعوبة التي ربما يبدو عليها. فالكثير من الوثائق الرسمية الجديدة، مثل إجازة السوق، موجودة أصلا في قواعد للبيانات. ولن يكون علينا سوى ربط قواعد البيانات هذه مع بعضها وبناء نظام حاسوبي محكم يعمل على الإفادة منها، وصولا إلى نظام متكامل يسهل العملية الإدارية، ويقلل الضغط على الدوائر الرسمية، ويجعل حياة الناس أفضل.

Saturday, August 04, 2012

ثقافة الفيسبوك ودورها في انحدار المستوى الثقافي

أتاح الفضاء الألكتروني الواسع حرية مطلقة تقريبا لكل فرد في أي مجتمع أن يصبح كاتبا ومعلما ومثقِفا (بكسر القاف) لجمهور غير محدود نظريا، يتألف في معظم الأحوال من (معجبين) وأصدقاء أو أصدقاء لأصدقاء وهكذا. هذه الحرية في النشر
 التي باتت حقا غير مُنازع حوّلت بعض الناشرين إلى قدوات يحتذى بها دون المرور بالمراحل التقليدية من دراسة وإشراف وتمحيص وفحص وتدقيق من قبل ذوي الاختصاص قبل إرسال المادة إلى النشر.
في ماضي الأيام كان يتوجب على الكاتب أن يعرض المادة الثقافية التي ينوي نشرها على محرر ومصحح لغوي قبل أن تجد طريقها إلى النشر حرصا على الذوق العام، وتأكيدا على رفع المستوى الثقافي بين جمهور المتلقين. أما اليوم فقد أصبح من السهل أن يقوم شخص نصف متعلم بكتابة (مقال) دون مراعاة لأبسط قواعد الكتابة، مستعملا لغة ركيكة تمتلئ بالألفاظ الدارجة غير الفصيحة، ويضمنها أفكارا قد تكون مجرد مقتبسات محرفة تارة غير منسوبة وطورا منسوبة لغير قائلها. والأنكى من ذلك الأسلوب الظاهري في الكتابة بالألوان واستخدام أدوات الخط العريض والمائل وغيرها، وتكبير حجم الخط في بعض الأحيان، حتى يصبح الشكل العام مشوها وغير متسق بالمرة مع واحدة من أساسيات الكتابة: جمال المظهر الخارجي.
وقد ساعد الفيسبوك على شيوع مثل هذه الأساليب المتدنية ثقافيا بين جيل الشباب بالأخص، وأقنعت الكثيرين أن هذا هو كل ما يتطلبه الأمر للوصول إلى عقول الجمهور المستهدف وبالتأكيد قلوبهم. وبما أن مقياس نجاح مثل هذا الكاتب لا يتعدى عدد مرات الإعجاب (لايك) التي يحصل عليها، فليس عليه أن يكون كاتبا محنكا أو أن يحتوي مقاله على مادة جيدة، بل يكفي أن يضع صورة مرفقة بمقاله العتيد، ويطلب إبداء الإعجاب إما مباشرة أو احتيالا، بان يطلب من المستخدم ضغط توليفة من الأحرف في لوح الكتابة بالحاسوب تؤدي في النهاية إلى ترك بصمتك الدالة على الموافقة وإن لم تكن تريد ذلك فعلا.
يضاف إلى كل هذا إمكانية إعادة النشر من قبل الأصدقاء أو من تصل إليه المادة المنشورة باستخدام أداة المشاركة (شير)، وهي وسيلة تأثير أخرى لا تعتمد على جودة المادة المنشورة بالضرورة. كما أن تطبيق الفيسبوك يقوم بإعادة نشر المادة أو الصورة إذا فتحها مستخدم ما بغرض الاطلاع عليها، ووضع   إشارة  عليها (تاغ)، ما يؤدي إلى المزيد من النشر غير المقصود أو الموجه من الأساس.
وهكذا تجد نفسك وأنت تتصفح الفيسبوك وسط خضم من أمواج غير متجانسة ولا متسقة مع سياق محدد. بعضها مقولات نسبت إلى غير قائليها، أو حتى إلى من لا يتوقع أن يتفوه بها، للدلالة على فكرة يقصدها الناشر دون مراعاة لأبسط شروط الأمانة العلمية والأدبية. وربما تصعقك صورة مركبة باستخدام تطبيقات معالجة الصور يراد منها إثبات نظرية دينية، أو عقيدة ما. وقد يعمد احدهم إلى إغراق الصفحة بالعشرات من مواده التي يعتبرها مهمة، وان لم تكن ذات قيمة في واقع الحال، ما يحرمك من مواد سابقة قد تكون أفضل منها.
وقد لاحظت من خلال استخدامي الفيسبوك فترة غير قليلة أن الكثير من الكتاب الملتزمين إما رفضوه بداية، أو هجروه آخر الأمر. وأجد هذا الأمر مفهوما؛ فأنت لا تريد أن تعقد ندوة ثقافية في سوق (الهرج)، ولا أن تنشر مقالا في لوحة إعلانات. علاوة على ذلك فإن حيز التعليقات غير المنضبط قد يجلب لك الكثير من الصداع رغم الفائدة الجمة المتحصلة من الحوار والتبادل الفكري بمثل هذه الأدوات.
ولم يكن الفيسبوك هو التطبيق الأول الذي يعاني  مثل هذه الآفات. فقد سبقته إلى ذلك المجموعات البريدية التي تستخدم جمهورا من عناونين ألكترونية مشتراة أو مسلوبة لإقحام مواد بعينها على متلقين ليس بيدهم حيلة غير محو المادة أو وضعها في سلة المتطفلين. وربما كان السلف الأكثر قربا والذي لا يزال معمولا به هو ما يعرف بالمدونات (بلوغز)، والتي هي في الواقع صفحات شخصية لأفراد قد يكونون من الكتاب المُجيدين، أو مجرد مهرجين ساعين إلى اجتذاب الجمهور بأية طريقة تتاح لهم.
غير أن أدوات الفيسبوك، وانتشار استخدامه على نطاق واسع بين الشباب، جعلته الأخطر على المستوى الثقافي بشكل عام، والذي أزعم انه في انحدار متزايد منذ بداية عصر التبادل المعلوماتي الفوري، الذي يحلو لنا أن نطلق عليه اسم الانترنت. وبفضل الفيسبوك، فان هذا التدني في مجالات الثقافة والعلوم والآداب قد أصبح واقعا يتأكد يوما بعد يوم.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، إلا أنني لا أدعو إلى مقاطعة الفيسبوك، أو محاربته، أو منعه بأي شكل من الأشكال. فإيماني بالحرية الفكرية يمنعني من طلب وضع رقابة على أية وسيلة إعلامية مهما تكن. لكنني أدعو إلى نوع من التثقيف ونشر الوعي حول مخاطر الفيسبوك على المستوى الثقافي العام، وطرائق تجنب الوقوع في مطبات ما يبدو لغير العين الفاحصة حقائق لا يدانيها شك. يمكن أن تبدأ حملة التوعية هذه في المدرسة، والبيت، قبل أن تتحول إلى حملة يرفع لواءها الشباب أنفسهم. هؤلاء الشباب ربما رغبوا في أن يحوزوا قدرا كبيرا من الثقافة الرصينة، لكنهم إنما يجهلون كيف يحصلون عليها. وعلى المربين أن ينهضوا بهذا الأمر، كما نهضوا به في كل عصر، وواجهوا كل تحدٍ بصبر وجلد، حتى آلت إبداعات الأولين ألينا. وعلينا أن نحافظ على تلك الدرر وعلى الذوق السليم الذي بدونه لن يصبح لإرثنا الثقافي العظيم من معنى.