Monday, November 14, 2011

خريف النظام السوري لا يوقفه الامتناع العراقي

توصلت الجامعة العربية، في دورتها الوزارية الاستثنائية، الى قرار بتجميد عضوية سوريا في تلك المنظمة التي ظلت على مدى عقود طويلة داعمة لأنظمة اعضائها بغض النظر عن الطريقة التي يحكمون بها شعوبهم. واذا كان الربيع العربي قد أثر على بعض تلك الانظمة، وأسقط بعضه الآخر، فانه قد ترك بصمة واضحة على الجامعة العربية وحولها من مجرد منتدى للملوك والرؤساء العرب الى مؤسسة شعبية تنظر في قضايا الشعوب العربية المقهورة بمزيد من التمعن والإدراك للحال البائسة التي آلت إليها.
وقد صوتت لهذا القرار ثماني عشرة دولة عضو في المنظمة، من بينها دول تحررت للتو من نير الدكتاتورية مثل تونس ومصر، ودول مازال زعماؤها يحكمون قبضتهم على مقاليد الامور فيها مثل السودان. اما الدول التي عارضت القرار فلم يكن موقفها غريبا. فاليمن يمر بنفس المرحلة التي يمر بها النظام السوري، وهو ايضا مرشح للمزيد من الضغط العربي والدولي ليفسح المجال امام شعبه الطامح الى الحصول على حق تقرير المصير، ولكي يوقف محاولاته المستميتة من اجل وضع البلاد على شفا حرب اهلية في سعيه للتشبث بالسلطة بأي ثمن.
وبالمثل، فان الحكومة اللبنانية قد أثبتت في الماضي ولاءها للنظام السوري من خلال موقفها من قرار مجلس الأمن الذي صدر بإدانة استخدام العنف ضد المتظاهرين في سوريا قبل اشهر قليلة، والذي امتنعت عن التصويت عليه، في ظاهرة غريبة تصدر عن دولة كانت تعتبر من اعرق الديمقراطيات في العالم العربي والشرق الاوسط ككل.
لكن المستعصي على الفهم هو موقف العراق. فامتناع العراق عن التصويت لصالح قرار تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية ربما يُعد رفضا للقرار اكثر منه مجرد النأي بنفسه عن الخوض في قضية سوريا. فلو كانت المسألة نزاعا بين دولتين لكان الامر مفهوما. اما ان يمتنع العراق عن الادلاء بصوته ضد القمع والطغيان والتعذيب والتهجير والقتل وانتهاك المحرمات فهذا امر عجيب. الم يعان العراق من الاضطهاد على يد نظامه السابق اربعين عاما ذاق فيها الشعب الامرين من ويلات الحروب والحصار والعزلة الدولية؟ الم يعمد ذلك النظام الى اعادة العراق نصف قرن الى الوراء وتسبب في قتل الملايين وتهجير ملايين اخرى فرّوا بجلودهم من بطشه؟ ثم، الم يكن من بين المهجرين والمهاجرين اولئك الذين تربعوا على كراسي الحكم في العراق الان بعد تحرره من سطوة النظام السابق؟ اذا، لماذا لا يتذكرون ايام سلكوا الشعاب والطرق الخطرة وتعرضوا الى شتى المخاطر في سعيهم للفرار من نظام لا يفترق كثيرا عن النظام السوري؟
تلك اسئلة محيرة. واقر باني لا اكاد استطيع ان افهم او افسر موقف العراق. يقول البعض ان موقف الحكومة العراقية انما يمثل امتدادا للاثر الايراني في المنطقة ككل وفي العراق على وجه الخصوص. والحقيقة اني لا ارى ان الحكومة العراقية مجرد بيدق في رقعة الشطرنج الايرانية. ربما تكون هناك بعض المناسبات التي يجامل فيها المسؤولون العراقيون النظام الايراني، إما لعلاقتهم الشخصية برموزها، او لكسب ود ذلك النظام وضمان عدم اسقاطهم سياسيا من قبل اولياء النظام الايراني في العراق. أي ان الاثر السياسي لايران في العراق لا يتعدى ولاءات متناثرة لا تمثل مجتمعة نسبة وافية لاحداث أثر في السياسة العراقية. كما ان هناك خصومات داخل اطراف الحكومة العراقية تجعل من الصعب على الحكومة ان تتخذ موقفا مميزا في قضية مثل دعم النظام السوري، دون ان يكون هناك توافق بينها.
واللافت ان الحكومة العراقية الحالية قد تعرضت للنظام السوري بالقدح والذم والاتهام في غير مناسبة. وهي اتهمت ذلك النظام بتغذية أعمال العنف في العراق المرة تلو الاخرى، حتى وصل الامر الى رفع شكوى ضده في المحافل العربية والدولية، وظلت العلاقة بين البلدين في حال من التلبد والجمود لفترة ليست بالقصيرة. كما ان العراق طالب النظام السوري بتسليم المطلوبين بتهم تمس امن الدولة العراقية ومنها التخطيط والتمويل لاعادة حزب البعث الى الحكم وخلخلة الوضع الامني. وفي المقابل ليس هناك موقف ضد المعارضة السورية لا في الداخل ولا في الخارج. بمعنى ان العراق لم يكن يرى في تلك المعارضة ما يهدد امنه وسيادته واستقراره، بينما كان النظام السوري على الدوام متهما بكل ذلك واكثر.
ومن كل ما تقدم فان الارجح ان موقف الحكومة العراقية يعكس وجهة نظر اغلبية الاحزاب المشاركة فيها. ذلك ان هناك تخوفا واضحا من حصول انقلاب سياسي في سوريا قد لا تكون عقباه حميدة على الوضع في العراق، من وجهة نظر الحكومة العراقية. كما ان التصعيد الدولي قد يقود الى تدخل عسكري اجنبي، وهو ما قد يفتح بابا آخر للعنف في دولة مجاورة ربما يتضرر العراق من شظاها. او قد تكون سيطرة المد الديني - الاسلامي على حركة الشارع العربي، بضمنه الرأي العام السوري، وما يحمل في ثناياه من اثارة للطائفية، هو هاجس القيادة العراقية.
وأياً يكن الامر، فان الاهم يتقدم على المهم. والاهم في هذه الحالة هو نصرة قضايا الحرية والديمقراطية والتعددية وصون حقوق الانسان. ان من الحكمة ان يقف المرء موقفا محايدا في قضايا لا تهمه. ولكن ان تقف الدول على الحياد في امور تمس معتقدها السياسي فهو نفاق واضح. وربما يؤدي مثل هذا الموقف الى فقدان الثقة بالحكومات واسقاطها سياسيا وشعبيا. فكيف لك ان تقنعني بانك غير متعطش للسلطة اذا كنت تؤازر متشبثا بها؟ والمثل العراقي يقول: "حشرٌ مع الناس عيد"، أي ان عليك ان تساير الناس في الامور التي لا تمسك مباشرة. وهو الحال مع النظام السوري، فبقاؤه ليس افضل من رحيله. وحركة التاريخ تشير الى هذا التغيير الوشيك، فهل علينا ان نقف ضد هذه الحركة الحتمية؟ لا اظن ان الحكومة العراقية قد وعت آثار الربيع العربي حتى الآن. ومن سخرية القدر ان العراق، حسب رؤية الرئيس الاميركي السابق جورج دبليو بوش، هو واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط. لكنه فشل حتى الان في اثبات ان الديمقراطية التي يحمل لواءها هي النظام الامثل للحكم. وهو فشل آخر لاميركا في منطقة الشرق الاوسط ككل وليس في العراق فحسب.

Thursday, November 03, 2011

دعوة للقضاء على الفساد الإداري من خلال النيو ميديا

من المؤسف أن يستمر ذكر العراق في صدارة الدول التي تعاني الفساد الإداري سنة تلو الأخرى. ولكن الأمر الأكثـر إيلاماً هو أن ترى مسؤولي الدولة في حالة نكران كامل لهذه القضية المهمة، إن لم تكن الأهم في الوقت الراهن. بل أنهم نادراً ما يتناولون موضوعة الفساد الإداري في إطار الحلول المطروحة أو أن يشرحوا لنا خطتهم في التصدي لتلك الظاهرة الخطيرة.

يتحدث بعض الناس، عند تناولهم موقف الحكومة الرسمي من الفساد الإداري، عن أمور مثل السماح لبعض المسؤولين بتفشي الفساد عمدا بين داوئرهم من اجل التغطية على ممارساتهم الفاسدة هم أنفسهم. بينما يقول آخرون: إن الفساد يخدم بعض الأحزاب المتنفذة لغرض الإبقاء عليها في السلطة من خلال التمويل المنتظم الذي ما كانوا ليحصلوا عليه من طريق آخر.
لكن الظاهر أن هذه الآراء، وإن حملت بعض الأجوبة، لا تستطيع أن تقدم تفسيرا شاملا لاستشراء الفساد الإداري بما يتجاوز المعدل المتعارف عليه في دول فقيرة ومتخلفة قياسا بالعراق. وهي أيضا لا توضح تخاذل الحكومة، المكونة من أحزاب متصارعة دأبت على إظهار مواطن العيب لدى بعضها البعض الآخر.
لهذا فلابد من وجود أسباب أكثر عمقا جعلت من هذه القضية عسيرة على الحل إلى هذه الدرجة. وربما يكون أهم هذه الأسباب هو كون هذه الظاهرة موروثة من النظام السابق، الذي سقط إثر الغزو الأميركي عام 2003. فقد عملت أجهزة ذلك النظام على رعاية الفساد الإداري بشكل ممنهج، بسبب عجز الدولة عن توفير ابسط سبل العيش لموظفيها. فقد كان معدل دخل الموظف العادي الشهري، على سبيل المثال، لا يكفي لسد نفقات نقله إلى دائرته أو مدرسته أو ما سواهما. واذكر أن نائبا في مجلس العموم البريطاني زار العراق إبّان فترة الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق، وتحدث في مؤتمر صحفي من مستشفى، مشيدا بالأطباء العراقيين الذين قبلوا أن يعملوا في مستشفياتهم براتب لا يزيد على "ثمن بيضة في اليوم الواحد". ومن الواضح أن مثل هذا الأجر لا يقيم أودا ولا يسد رمقا. ولم يكن لدى الأطباء العراقيين من سبيل سوى العمل في المستشفيات حسب قانون التدرج الطبي، ولكنهم وجدوا موردا آخر للعيش من خلال العيادات الخاصة. أما غيرهم من الموظفين فإنهم قلما أتيح لهم العمل في القطاع الخاص، الذي عانى هو الآخر من مشاكله الخاصة نتيجة الحصار الاقتصادي.
وهكذا لجأ الكثير من الموظفين إلى ممارسات تندرج تحت مسمى الفساد الإداري، وإن لم يعدها جميع الشعب كذلك. مثال ذلك دفع مبالغ مالية، قد لا تكون كبيرة، من اجل تجاوز الدور، أو استحصال موافقات روتينية لغرض تمشية المعاملات التي، ما عدا ذلك، ليس هناك من داع لإيقافها. وتطور الأمر إلى زيادة التعقيدات الإدارية والروتينية لحمل المزيد من الناس على الدفع وتخليص معاملاتهم. وإذا لم يكن هناك ضرر مباشر على المصلحة العامة نتيجة لهذه الممارسات، فان ضررها المتراكم كان اكبر من كل قضايا الفساد المألوفة، مثل الاختلاس والرشوة والمحسوبية. لقد أدى شيوع ثقافة تجاوز الروتين الحكومي عن طريق دفع الأموال للموظفين العموميين إلى شرعنة هذه الممارسة حتى بات من الصعب إقناع كل من طرفي المعاملة، المواطن والموظف، إنها خطيئة كبيرة. فكم مرة سمعت، عزيزي القارئ، عن ممارسات مثل استحصال إجازة قيادة بدون حتى الذهاب إلى دائرة المرور؟ ومثلها لحالات جواز السفر؟ أنا واثق من أن لديكم الكثير من الأمثلة التي تغني عن المزيد من الإيضاح.
إن شيوع هذه الثقافة قد انعكس على النظام الجديد بكامل صورته، وان تغيرت الأحوال. نعم، لم يعد الموظف بحاجة إلى "الإكرامية"، بعد أن تحسنت أحوال معظم الموظفين المالية. ولكن الكثير من الموظفين كانوا في الخدمة قبل التغيير واستمروا بعده. وإذا كان هناك أمر (شرعي) تحت ظرف ما، فسيبقى شرعيا تحت كل الظروف. لان المبدأ الأساس في الأخلاق هو أنها غير نسبية. فالسرقة سرقة سواء أنفقتها على الموبقات أو لغرض إطعام الفقراء. وانه لمن دواعي الأسف الشديد أن معظم الناس يتفقون على أن الرشوة أمر خاطئ وحرام لكن الكثير منهم لا يتوانى عن دفعها من اجل الحصول على غايتهم بشكل ميسر. وهم يتفقون على تحريم السرقة والغصب وأكل مال الغير، ولكنهم لا يجدون أن الرشوة هي فعل يضم هذه الأمور الشنيعة اجمعها.
لذلك إن أردنا أن نتصدى إلى الفساد الإداري يجب علينا أن نبدأ من القاعدة: من صغار الموظفين وعامة الشعب. طبعا نحن ندرك وجود جهات متخصصة بهذا الشأن مثل هيئة النزاهة، ودوائر المفتش العام في الوزارات وديوان الرقابة المالية، وحتى منظمات المجتمع المدني. لكن الممارسات الصغيرة لا تصل في العادة إلى تلك الجهات. وحتى إن وصلت فلربما لا تجد اهتماما كافيا لكون تلك الجهات مشغولة بقضايا فساد اكبر. وبالتالي فان استمرار هذه الممارسة يعني ترسخها واستشراءها أكثر فأكثر.
إن ما ندعو إليه هو حملة منسقة، لا تقودها مؤسسات الحكومة أو البرلمان، بل يقودها المواطنون أنفسهم. تلك الحملة تشرح للناس أن تقديم الإكرامية هي عملية سرقة بشكل أو آخر، وهي غصب لحق شخص آخر، وهي بكل تأكيد أمر شنيع لا يقل عن الفساد في عقود الكهرباء أو النفط أو السلاح. فالأمر الخاطئ لا يكون صحيحا إذا كانت قيمته اقل من دينار أو ألف أو مليون مثلا.
هذه الحملة يجدر أن تروج باستخدام وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والاذعات والفضائيات، ولكن بشكل أكثر تفاعلا من خلال وسائل (نيو ميديا) وهو تعبير عن وسائل الإعلام الجديدة التي بات الناس العاديون محررين فيها مثل ما هم قراء. ومن الأمثلة على ذلك مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، وكذلك المدونات الشخصية المعروفة بـ(بلوغ). والسبب في اعتقادنا بان مثل هذه الحملة يمكن أن تؤدي في آخر الأمر الى تأخير موقع العراق على قائمة الدول التي تعاني الفساد، وذلك بأن يتحدث الناس فيها بالطريقة التي يشعرون بأنهم جزء منها، أي أنهم سوف يكونون رعاة للحملة أكثر من كونهم مجرد هدف لها. وهكذا فانك تجد من الصعب أن تخالف ما تعظ به، لكنك ربما تجد من المغري أن تخالف الوعظ الذي يلقى عليك.
وسوف أبدأ بان اطلب من كل إنسان شريف أن يقول معي "الإكرامية مثل الرشوة وكلاهما عيب وحرام".