Friday, September 04, 2009

لمحة عن الازمة الاقتصادية.. الأسباب والنتائج

اعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الاميركي اواخر الشهر الماضي انتهاء حالة الركود الاقتصادي Recession التي عصفت بالولايات المتحدة، واجزاء اخرى من العالم، خلال العام المنصرم، رسميا على الاقل. واعتبر بعض المحللين هذا الاعلان مجرد وسيلة للاستهلاك المحلي بعد ان طال امد الازمة التي أثرت في مفاصل الحياة الاميركية بشكل لم يسبق له مثيل منذ الكساد العظيم Depression الذي حدث في ثلاثينيات القرن العشرين.
وكان مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد اعلن دخول اقتصاد البلاد حالة الركود اواسط العام الماضي كتحصيل حاصل، حيث انهارت كبريات المصارف الاميركية، وسرح الآلاف من الموظفين الذين كانوا يعملون في مختلف الشركات الخاصة، وحتى من الخدمة الحكومية، بسبب عجز الموازنات المالية لتلك الهيئات، وضربت نسب البطالة ارقاما قياسية مقارنة بعقود سابقة.
ويحسن بهذه المناسبة إلقاء نظرة على اسباب هذه الازمة الاقتصادية الكبرى، ومحاولة استقراء اثرها عالميا ومحليا، وتأثيراتها المحتملة على العراق والشرق الاوسط عموما. لكن من المفيد اولا التعرف على بعض مظاهر الاقتصاد الاميركي، حيث يكمن جزء كبير من المشكلة في اصل النظام ونمط الحياة الاميركية.
ثقافة الاستهلاك
من المعروف ان النظام الرأسمالي يشجع على الاستهلاك كوسيلة لإدامة عجلة الاقتصاد، ويحارب نزعة التوفير من خلال اشعار المواطن بنوع من الامن الاقتصادي المستند الى اقتصاد متين قادر على تجاوز الازمات المالية. والحق ان اقبال الناس على الشراء وصرف الاموال والمدخرات ليس بالامر السيىء طالما ادى ذلك الى ضخ تلك الاموال في السوق المفتوحة، وبالتالي خلق المزيد من فرص العمل في المصانع والمتاجر واسواق البورصة، واتاحة المزيد من فرص الاستثمار واجتذاب رؤوس الاموال محليا وعالميا.
بيد ان الاسراف في الصرف ليس محمودا. ومن الحكمة دائما ان يضع المرء بعضا من مدخراته تحت السجادة تحسباً لأمر طارىء او لازمة غير محسوبة. لكن المجتمع الاميركي اعتاد على نمط حياة قائم على الاستهلاك المفرط. فعلى سبيل المثال تجد بعض الناس يتحدثون عن عدم قدرتهم على زيارة جزر البهامس لقضاء اجازتهم الصيفية هذا العام بسبب الازمة الاقتصادية، على الرغم من ان الكثيرين فقدوا اعمالهم وباتوا يعتاشون على المساعدات الضئيلة التي تقدمها الدولة للعاطلين عن العمل. فحياة الرفاهية امنية صعبة التحقيق، واصعب من ذلك التخلي عنها.
خط الائتمان
يقوم الاقتصاد الاميركي على فكرة خط الائتمان Line of Credit وهو نظام دقيق يتمثل بوضع تاريخ لكل فرد يقوم على طريقة استخدامه للقروض التي تقدمها المصارف، وحتى في استخدامه بطاقة الصراف الآلي المعروفة ببطاقة الائتمان Credit Card. ولتوضيح ذلك، فان كل مواطن بمكانه ان يحصل على بطاقة الائتمان من احد المصارف او المتاجر الكبرى، وما عليه سوى ان يتسوق باستخدام تلك البطاقة وميزة التحويل الالكتروني لقيم البضائع المشتراة. وبعد مضي فترة، تبلغ شهرا في العادة، يقوم المصرف بإصدار بيان العميل ويطلب من تسديد المبالغ المترتبة بذمته. فاذا تخلف العميل عن الدفع يرسل المصرف اشعاراًلا الى هيأة الائتمان Credit Bureau يخبره بهذه الواقعة، ومن ثم يتم حسم نقاط من العميل.
فإن اراد هذا الشخص ان يقترض مالا لشراء سيارة او منزل مثلا، فإن عليه ان يقدم تاريخه الائتماني Credit History الذي يبين كيفية تعامله مع القروض واستخدامه لبطاقة الائتمان. وكلما كان عدد نقاطه اعلى انخفضت قيمة الفائدة التي يفرضها المقرضون، والعكس بالعكس. وفي بعض الاحيان لا يحصل العميل الذي يضم تاريخه الائتماني تخلفا عن الدفع لمرات عديدة على القرض مهما كانت الفائدة.
والحسنة في هذا النظام انه يجبر الفرد على مراقبة صرفياته وفقاً لدخله، لكنه يوفر في نفس الوقت اغراءات بالشراء او الاقتراض على امل الحصول على دخل اكبر، او حتى الاستمرار في الوظيفة التي يعمل بها المواطن. وليس هناك من ضمان على ذلك. فالناس يطردون من اعمالهم طوال الوقت، وحينها تنشب ازمة فردية، قد تؤدي الى ضياع آمال الانسان، وتخليه عن اعز ما يملك وهو يسعى الى سداد ديونه المتراكمة.
جشع الرأسماليين
لعل ابرز مظاهر النظام الرأسمالي هو رغبة اصحاب رؤوس الاموال في زيادة اموالهم بأية وسيلة. غير ان النظام المدرك لهذه الحقيقة يسمح بها ويغفر لها. والسبب في ذلك ان النزعة الطبيعية للإثراء هي ما يدفع الناس الى العمل والاجتهاد، ووجود اناس عصاميون تسلقوا هرم الثروة يجعلهم امثولة لغيرهم، يحثونهم على الكد والعمل آملين في تحقيق ما حققته تلك الثلة.
ويقود هذا الجشع الى تركز الثروة والى الاحتكار، وهما امران سلبيان الى حد كبير، بحيث ان النظام الرأسمالي نفسه ينطوي على آليات لمحاربتهما، وان لم تكن تلك الآليات بالمستوى المرجو منها. وهكذا فلا محيص عن تباعد الفجوة بين الاغنياء والفقراء في مثل هذا النظام، ويتزايد فيه الشعور بعدم الرضا الناتج عن فشل الناس العاديين في الاغتناء السريع، مقابل توافر امثلة تدل على امكانية ذلك. والحل يأتي في اغلب الاحيان من خلال محاكاة حياة الرفاهية التي يحلم بها المواطن، والمتمثلة بالبيوت الواسعة والسيارات الفارهة وما الى ذلك. كل ذلك من خلال القروض التي تقدمها المصارف.
النظام الضريبي
لا تملك الدولة الرأسمالية موارد خاصة بها، فجميع القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية وجميع الاستثمارات التجارية وحتى الموارد الطبيعية مملوكة للقطاع الخاص. ويقوم دخل الدولة على جباية الضرائب والرسوم من ارباب المصالح مقابل تفويضهم بالعمل والانتاج. ويعني هذا الامر ان التقصير في دفع الضرائب المستحقة، سواء للعجر عن الدفع او لعدم وجود مورد الدفع مثل تعرض المصالح الى الخسائر، يجبر الدولة على التقليل من نفقاتها. ومن اشكال تقليل النفقات ايقاف المشاريع الكبرى، والاستغناء عن خدمات الموظفين الحكوميين، وكلا الامرين يؤثر سلبا على مجمل الاقتصاد. فالدولة تبقى محركا اساسيا لحركة الاقتصاد حتى في نظام يقوم على نشاط الافراد بشكل اساس.
ومع ذلك تسعى الدول الرأسمالية الى الاحتفاظ بخزين مالي احتياطي تحسبا للازمات. الا ان استخدام هذا الخزين الاحتياطي يؤثر في قدرة الدولة على معالجة الازمات التالية. وبالتالي فإن الاستمرار في الاعتماد عليه لا يقود بالضرورة الى تحسين الوضع الاقتصادي، بل قد يزيد الطين بلة. انه وضع دقيق يصلح لحلحلة اقتصاد متعثر، ولكنه قد يفشل في مواجهة ازمة متفاقمة.
التضخم
يقال ان قيمة الدولار الاميركي قبل ثلاثين سنة كانت تبلغ عشرة اضعاف قيمته الحالية، وهذا هو احد معايير التضخم. انه التقلص التدريجي في قيمة العملة مع الزمن، او تضاؤل عدد البضائع التي يمكن شراؤها باستعمال نفس العملة النقدية مقارنة باوقات سابقة. وهو امر حتمي في اقتصاد استهلاكي، فالمزيد من الاموال في السوق تعني تقليل قيمتها، وزيادة الطلب على البضائع تقود الى رفع اسعارها.
وليس التضخم امرا سيئا بالضرورة. فمن النافع في بعض الاحيان ان يشعر الناس بان قيمة اموالهم المخبأة تقل مع الزمن، وبالتالي فمن الافضل ان يستثمروها في شراء البضائع، او المواد العينية ذات القيمة الثابتة نسبيا، او حتى سندات البورصة.
غير انه قد يصبح وبالا اذا تجاوز الحد الطبيعي، او اذا كانت اسعار المعروضات تزداد بشكل لا يوازي انخفاض العملة. ففي هذه الحالة تصبح قيمة المعروضات وهمية ومبنية على طلب محلي مبالغ فيه، وقد تتعرض الى الهبوط الفجائي للعودة الى المستوى المفترض. ويؤدي مثل هذا النزول الى ازمة اقتصادية تتراوح شدتها حسب حجم التعاملات بالمواد المعروضة.
ما الذي حدث في اميركا؟
في البدء كان الناس يشترون منازلهم بعد ان يكونوا قد وفروا ما يكفي لشرائها. ثم جاء النظام الائتماني ليساعدهم على الاقتراض لشراء تلك المنازل بالتقسيط. ويبلغ سعر الدار التي تباع بهذه الطريقة اكثر من ضعف السعر المقدر في معظم الاحوال، حيث يتاح للمقترض ان يسدد قرض المنزل خلال فترات تترواح بين خمسة عشر الى ثلاثين عاما.
غير ان اسعار المنازل ارتفعت خلال السنوات الاخيرة لتبلغ ضعفي او ثلاثة اضعاف سعرها في العقد الماضي. وهذه الزيادة ليست الا نتيجة لارتفاع الطلب المحلي، ولا تعود الى التضخم المالي بشكل مباشر. ودفع هذا الامر بعض الناس في الولايات المتحدة الى الاقتراض مجددا برهن بيوتهم التي باتت اكثر قيمة مقارنة بوقت شرائهم لها. كما قام الكثير من المواطنين بشراء منازل ذات قيم سوقية عالية دون التفكير في امكانية سداد اقساط القرض العقاري اذا فقدوا مصدر عيشهم لأي سبب من الاسباب.
وفي الحقيقة فإن شروط منح القروض العقارية قد تم تخفيفها وقت حكم ادارة الرئيس كلينتون، على الرغم من أن الكثيرين يشيرون بأصابع الاتهام الى ادارة الرئيس بوش في حدوث الازمة العقارية بادىء الامر. وكان الغرض من تخفيف الشروط هو منح عدد اكبر من المواطنين فرصة الحصول على منزل، دون الالتفات الى ما سيؤول اليه الامر ان عجز هؤلاء عن السداد. واغلب الظن ان المشرعين اعتقدوا ان ما يمكن ان يحصل هو حالات افلاس فردية لن تؤثر على مجمل الاقتصاد الاميركي، الذي بدا بأقوى صوره حينذاك.
ومن جهة ثانية، استغلت المصارف والجهات الدائنة جهل الكثير من المقترضين ورغبتهم الشديدة في الحصول على القرض، ففرضت شروطها الخاصة. ومن هذه الشروط مثلا ان المقترض يسدد اولا الفوائد المترتبة على القرض قبل أي شيء آخر. وهذا يعني ان المقترض قد يمضي خمس سنوات في عقار، يسدد اقساط القرض العقاري بانتظام، ثم يفشل في التسديد لبضعة اشهر، فيقوم المقرض بوضع اليد على العقار وبيعه في المزاد، وبما ان المقترض كان يدفع الفائدة اولا، فمن المحتمل ان لا يحصل على شيء. والواقع انه قد يكون قد سدد جزءا كبيرا من القرض خلال تلك المدة. انه الجشع الذي يتخفى في عقد القرض الموقع بين الطرفين، والذي لايذكر هذا الشرط الا في زاوية صغير وبحجم خط صغير او ما يعرف بالـ Fine Print.
لكن الجشع الرأسمالي يتجاوز خداع المتعاملين بعقود صعبة القراءة الى بيع ديونهم الى جهات اخرى. فعادة ما كان الدائنون يقومون ببيع كل مجموعة من الديون الى شركات اخرى. وفي كثير من الاحيان تكون تلك الشركات غير اميركية، كأن تكون صينية او اوروبية او حتى من البلدان النامية. وهذا يعني ان المدين يدفع اقساطه الشهرية الى شركة او مجموعة ربما لم يسمع بها من قبل. حتى تحولت العملية المالية المعقدة الى اشبه ببركة ماء فهناك من يصب فيها الماء وهناك من يغرف منها. ولم يعد تمييز من يدين من ومن يسدد لمن امر سهلا على الاطلاق، خصوصا حينما ينضب الماء الوارد، او تسديد الديون، عندها يصعب الاغتراف حتى لمالكي الديون الاصليين.
يشبّه الكثير من الاختصاصيين طريقة عمل النظام الائتماني بقطع الدومنيو المرتبة الواحد قرب الآخر. فحينما يسقط اولها يجبر جميع الاحجار التالية على السقوط. وهذا ما حدث بالضبط. عجز المدينون عن الايفاء بديونهم، وبلغ عددهم حدا يتجاوز قدرة الشركات الوسيطة على احتمال التسديد عنهم، وبما ان اغلبها اجنبية لم يكن هناك من فائدة في اشهار افلاسها، بل اختفت بكل بساطة من الساحة تاركة الشركات الكبرى في مواجهة الازمة المتفاقمة. حدث هذا الامر بطيئا اول الامر، واستغرق عاما كاملا دون ان يسبب في الواقع ازمة اقتصادية هائلة، لكن الانهيار حدث سريعا بعد ذلك. اذ اعلنت كبريات المصارف المختصة بالقروض العقارية، مثل AIG كبرى شركات الاقراض، افلاسها وانهارت بين يوم وليلة. سببت هذه الانهيارات المصرفية زلزالا اقتصاديا غير مسبوق، وادى الى أحجام المواطنين عن الانفاق تخوفا من استمرار الازمة لمدة طويلة. ومع انخفاض الطلب على السلع بدأت المتاجر والمصانع في مواجهة واقع غير مألوف، وهو عدم القدرة على تسويق البضائع، ومن ثم بدأت في تسريح موظفيها ما ادى الى اضافة اعباء اقتصادية جديدة. لقد بدأت عجلة الاقتصاد في التباطؤ.
عوامل اخرى
يلقي بعض المحللين باللائمة في هذه الازمة، جزئيا على الاقل، على ادارة الرئيس الاميركي السابق، كونه دفع بالبلاد الى حربين باهظتي التكلفة: افغانستان والعراق. غير ان هناك من بين المختصين من يرد بالقول ان عملية تخصيص ميزانية للدفاع لا تعتمد بشكل مباشر على الحرب. نعم هناك زيادة في النفقات نتيجة الاعمال الحربية، لكن النفقات الاصلية مستحصلة اصلا قبل الخوض في الحرب الفعلية. وهي ترصد لأعمال تطوير الاسلحة والتدريب وما شاكل ذلك. كما ان جزءا كبيرا من تلك الاسلحة يباع في الاسواق العالمية ويشكل واردا مهما للدولة. ومن المفارقات التاريخية ان الولايات المتحدة لم تنجح في تخطي آثار الكساد العظيم في الثلاثينيات الا بعد ان اشتركت فعليا في الحرب العالمية الثانية. أي ان الحرب ادت الى تطوير الاقتصاد الاميركي بدلا من التأثير سلبا عليه، كما حدث لباقي الدول المشاركة في تلك الحرب. ويصر بعض المحللين على ان الحال نفسه تكرر في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة لاحقا. لكن من الانصاف القول ان حرب العراق تحديدا كانت تسبب ضغطا هائلا على الاقتصاد الاميركي، فقد بلغت الكلفة التقديرية حوالي ترليون دولار. ولا شك في ان تلك التكاليف هي من بين العوامل التي تمنع الاقتصاد من تجاوز الازمة، ان لم تتسبب بها.
لكن هناك مشكلة ربما تكون قد اثرت بشكل اكبر وساهمت في حدوث الانهيار الاقتصادي، وهي عدم قدرة الصناعة الاميركية على المنافسة امام العملاق الصيني ودول جنوب شرق آسيا واليابان. فقد غزت البضائع القادمة من الشرق الاسواق الاميركية. حتى ان كبريات شركات التسويق الاميركية انشأت مصانعها الخاصة في الصين ودول اخرى للاستفادة من رخص الايدي العاملة والتسهيلات التي تمنحها الدول المضيفة للاستثمارات الاجنبية. وكانت هذه المنتجات تشحن خصيصا الى الاسواق الاميركية ما اكسبها ثقة المستهلك. ولم يعد بإمكان الصناعة المحلية المكلفة ان تصمد امام هذا المد المتصاعد.
ومن بين اوضح الامثلة على ذلك تعثر صناعة السيارات الاميركية الذي دام عقودا من الزمن. فعلى الرغم من انخفاض الطلب العالمي على السيارات الاميركية الا ان سمعتها المحلية كانت لابأس بها. وما حدث في الآونة الاخيرة ان المواطنين الاميركيين لم يعودوا يفضلون السيارات الاميركية، بعد ان ازدادت ثقتهم بالسيارات المستوردة الارخص ثمنا والتي تضاهيها جودة، ان لم تفقها.
ويبزر من بين العوامل الاخرى ارتفاع اسعار الوقود عالميا ليصل مستويات قياسية بين منتصف عام 2008 وأوائل عام 2009، اثرت في قدرة المستهلك على الانفاق واجبرته على ترشيد الاستهلاك. ومعنى هذا الترشيد، كما اسلفنا، ان عجلة الاقتصاد سوف تستمر في التباطؤ.
إجراءات الحكومة الاميركية
حينما حدث انهيار المصارف الكبرى، وجدت ادارة الرئيس بوش نفسها امام معضلة لم تخبرها من قبل. وبما ان عليها الاستفادة من التجارب السابقة، فقد نظرت اول الامر فيما حدث في الازمات السابقة، وبالخصوص في فترة الكساد العظيم. فقد رفضت الحكومة حينذاك ان تتدخل لحماية المصارف الغارمة، والتي وقعت تحت ضغط كبير من المودعين الذين توافدوا لسحب اموالهم. وكان رد الحكومة حينذاك ان النظام الرأسمالي سوف يصلح نفسه. وقد ثبت خطأ هذه الفكرة، وان عدم تدخل الدولة في ذلك الوقت ادى الى تفاقم الازمة بشكل خطير، دام سنوات عديدة. ثم فاز الرئيس روزفلت في الانتخابات بوعود انهاء الازمة، وقام بإطلاق مشاريع كبرى من اجل حلحلة الوضع الاقتصادي، ونجح في ذلك الى حد كبير. كما ان ادارته وضعت الاسس للنظام الاقتصادي والاجتماعي الحديث في الولايات المتحدة من خلال انشاء مجلس الاحيتاطي الفيدرالي ونظام الامن الاجتماعي لحماية العاجزين من كبار السن والمرضى والاطفال. ثم ساهمت الصناعة الحربية في وضع حد للتدهور الاقتصادي ليبدأ عصر من الازدهار في كل الميادين وضع الولايات المتحدة في قمة الدول الصناعية واتاح لها ان تتحول الى قوة عظمى.
والدرس الذي وعته ادارة بوش من هذا ان على الدولة ان تتدخل لحماية المستثمرين في اسواق الاسهم، طالما ان اغلبهم مواطنون عاديون. وقامت بالفعل برصد اموال طائلة لشراء اسهم الشركات المفلسة من اجل اعادتها للعمل من جديد، وفتحت حسابات باسم دافعي الضرائب لتتم اعادة الاموال المصروفة لحماية الشركات الغارمة من خلالها. ولكن لم يظهر اثر فوري لهذه الاجراءات، فالعملية المالية معقدة جدا. حتى ان شركة GM لصناعة السيارات، والتي حصلت على اموال كبيرة من اجل حمايتها من الافلاس، لم تستطع المقاومة وانهارت اخيرا. وسبب هذا الانهيار نوعا من زعزعة الثقة بين المواطنين الذين كانوا ينظرون الى عملاق صناعة السيارات كرمز وطني.
ومع ذلك بدأت بوادر التدخل الحكومي تظهر على الساحة، من خلال مشاريع فيدرالية منحت للولايات المختلفة، وان لم يخل الامر من تعقيدات سياسية وحزبية. ويرى بعض المحللين ان تلك الاجراءات ان لم تفلح في انهاء الازمة على الفور، فإنها ادت في الاقل الى ايقاف التدهور، وبالتالي امكانية اصلاح الوضع مع مرور الوقت.
تأثير الازمة عالمياً
على الرغم من كون الازمة الاقتصادية الاميركية محلية بالدرجة الاساس الا انها انعكست سلبا على مجمل الاقتصاد العالمي بسبب الوضع الفريد للاقتصاد الاميركي واكتسابه موقع الريادة عالميا. وقد ظهر هذا التأثير جليا في اسواق المال العالمية، في اوروبا واليابان ودول جنوب شرق آسيا. فقد انخفضت مؤشرات اسواق الاسهم بشكل حاد وسبب ذلك تباطؤا اقتصاديا كان من شأنه ان يهدد استقرار اسواق المال في انحاء المعمورة.
غير ان الحكومات الغربية، بالاضافة الى اليابان والصين ودول اخرى، اتخذت اجراءات سريعة لمنع التدهور. وتقوم هذه الاجراءات اساسا على نفس المبدأ الذي اقامت عليه الحكومة الاميركية اجراءاتها. اذ سعت تلك الحكومات الى شراء الديون ومساندة الشركات ذات الاداء الضعيف لوقف التدهور ولمنع الاسواق من الدخول في حالة من الركود الشامل.
وفي منطقة الشرق الاوسط، التي رغم اهميتها كمورد اساس للنفط الخام، لم يتعد تأثير الازمة الاقتصادية على الاسواق المالية هزات خفيفة. ويعود ذلك الى ضعف تلك الاسواق وحداثة نشأتها، كما انها محلية بدرجة كبيرة، ولا تتأثر بالازمات العالمية بنفس المقدار الذي تتأثر به الاسواق الاكثر عراقة في لندن واليابان وسواهما.
الا ان اكبر تأثير على الدول النفطية، ومن بينها العراق، كان في الانخفاض الحاد لاسعار النفط. وكان هذا الامر يمثل تهديدا حقيقيا لاقتصاد هذه الدول، وربما كان كارثة بالنسبة للعراق على وجه الخصوص. فقد اقام العراق، الذي تمثل صادرات النفط اكثر من تسعين بالمئة من ميزانيته، اقام تلك الميزانية على اسعار نفط مرتفعة نسبيا. وادى انخفاض اسعار النفط العالمي الى اجبار الدولة على التخلي عن العديد من المشاريع الاستثمارية الكبرى التي كانت تأمل من خلالها انعاش الاقتصاد وتوفير فرص العمل في بلد يعاني نسب بطالة عالية مقارنة بدول الجوار.
ما العمل؟
ربما يسأل سائل عن جدوى النظام الرأسمالي اذا كان يمكن ان يتعرض الى مثل هذه الازمات الكبرى. والحقيقة ان أي نظام اقتصادي معرض الى الازمات التي قد تبلغ حد الانهيار. غير ان الرأسمالية تطرح في العادة افكاراً عن السوق الحرة وعن التنافس الفردي وعن الحد من سلطة الدولة في الشؤون المالية، يصعب معها تصور ان الحل الذي يقترحه هذا النظام يقوم على عكس هذه الافكار. لكن ما يشفع لهذا النظام ان الناس الذين يعيشون في ظله لا يفكرون، ولا يقبلون في العادة، ان يتم التخلي عن نظامهم لصالح نظام اشتراكي. وهم حاربوا في البداية فكرة تدخل الدولة بشكل مباشر في شراء الاسهم والديون السيئة، ولم تلق هذه الفكرة قبولا الا بعد ان تم توضيح مبدأ فتح حساب دافعي الضرائب المصرفي لعموم الشعب.
والدرس المستفاد من تلك الازمة الاقتصادية ان الازمات تحدث على حين غرة، وان على الناس ان يؤمنوا بانها احدى حقائق الحياة. كما ان على الدول ان تتخذ احتياطاتها لمثل هذه الازمات وترصد بوادرها وتتعامل معها بأسرع وقت.
بالنسبة للعراق، فان انعكاسات الازمة المالية الاميركية كانت شديدة ومباشرة. وربما يتوجب اعادة التفكير، الان اكثر من أي وقت مضى، في بناء الاقتصاد على سلعة واحدة هي النفط. ويجب ايجاد البدائل التي من شأنها ان تقلل الاعتماد على النفط، وان كانت قائمة عليه. مثال ذلك منح تراخيص وعقود نفطية مقابل استثمارات طويلة الاجل، سواء اكانت تلك الاستثمارات صناعية او زراعية او تجارية او حتى سياحية بما يضمن دخل اضافي للدولة والفرد يحميهما من تقلبات السوق العالمية غير المتوقعة.