Sunday, July 22, 2007

هل من فائدة في رفع سعر الدينار مقابل الدولار؟

يسعى البنك المركزي العراقي، بتوجيه من وزارة المالية، منذ عدة اشهر الى دعم سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي بالتدريج. وقد اوضح وزير المالية ان ارتفاع قيمة الدينار مقابل الدولار يمثل نصرا ومكتسبا للحكومة، اضافة الى كونه انجازا لوزارته بالذات.
ولا يختلف اثنان ان ارتفاع قيمة الدينار تمثل مؤشر ايجابي لاداء الحكومة لو انه حدث بشكل طبيعي. فالواقع ان سعر صرف العملة في الدول التي تعتمد نظام السوق الحرة يحدده مقدار الطلب والعرض. اي ان العملة تخضع لنفس قوانين السوق كونها "سلعة" معروضة للتداول. لكن الاختلاف يكمن في مدى تدخل الدولة في تقدير سعر الصرف من ناحية تأثير ذلك على "حرية" السوق كقاعدة اساسية لنظام تكافؤ الفرص، وسلطة الدولة ممثلة بالاتجاهات السياسية التي سوف يتاح لها ان تتحكم في اتجاهات السوق، ابتداءا بسعر صرف العملة وليس انتهاءا باسعار الفائدة.
ويقال لنا بين اونة واخرى ان سياسية "تسعير" العملة او تحسين قيمتها تقع ضمن قائمة شروط صندوق النقد الدولي ونادي باريس لتخفيض والغاء الديون العراقية التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. وحيث انه لم يتم نشر هذه الشروط او نص الاتفاقية للاطلاع العام، فان معرفة تلك الشروط تبقى حكرا على النخبة ممن اتيح لهم الوصول اليها بطريقة او باخرى. وهذا يعني اننا في الواقع نستقريء تلك الاتفاقيات حسب طريقة عرضها من قبل الحكومة.
وبغض النظر عن الدافع لمثل هذا الاجراء، وعما اذا كانت عملية رفع سعر الدينار "منجزا وطنيا" او "شرطا مفروضا من الخارج"، فاننا سنحاول القاء الضوء فيما اذا كانت تلك العملية تخدم المصلحة الوطنية وتدفع عجلة التنمية المتثاقلة، ام انها عامل اخر في تعطيل الاقتصاد الوطني. ولنبدأ من مبدأ تدخل الدولة في تحديد سعر صرف عملتها. فقد كانت السلطة في النظام السابق تتبع هذا المبدأ منذ توليها زمام الامور نهاية الستينات، وكان ذلك متماشيا مع الفكر الاشتراكي الذي اعتنقه الحزب الحاكم. حيث عمل البنك المركزي على تثبيت سعر صرف الدينار لفترة طويلة، ولم يتح التعامل الحر بالعملة الصعبة الا في اضيق الحدود. وحتى مع اجراء بعض الاصلاحات لاتاحة المجال ام القطاع الخاص في استيراد بعض السلع المطلوبة للاستهلاك المحلي، كان يتوجب عليهم ان يحولوا مبالغ الاستيراد عن طريق البنك المركزي وضمن حدود معينة. وكان يجري تسعير الدينار حسب خطة الدولة. بمعنى آخر ان سعر الدينار في السوق العالمي كان مختلفا (اقل بكثير) عن سعره في البنك المركزي. نشأ عن ذلك ان البضائع المستوردة عن طريق الدينار المدعوم اصبحت مدعومة بالنتيجة، مما ادى الى منافسة غير منصفة مع الانتاج المحلي، وبالتالي انصرف كثير من الصناعيين والمنتجين عن اعمالهم لعدم القدرة على المواجهة. كما تزايدت النزعة الاستهلاكية بسبب رخص البضاعة المطروحة من مناشيء عالمية. غير ان رخص الاسعار كان ظاهريا فقط، وكشف عنه التضخم الشديد ابان سنوات الحصار وتراجع قدرة الفرد على الاستهلاك، واقتصاره على الضروريات، التي كانت هي الاخرى مدعومة من الدولة.
تلك التجربة التي عاشها العراقيون قبل فترة لم تتعد سنوات قليلة، اثبتت ان التحكم في سعر صرف الدينار قاد الى عواقب وخيمة حينما عجزت الدولة عن الاستمرار في تقديم الدعم المطلوب، وعندما واجه الاقتصاد تحدٍ خطير يتمثل في القدرة على تحقيق الموازنة في ميزان الاستيراد والتصدير. لقد شيدت الدولة آنذاك اقتصادها على تصدير النفط، ولم تولي عناية كافية لتطوير قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة الحرة.
من ناحية اخرى، فان تقديم الدعم للدينار يعني تخصيص مبالغ مالية هائلة من الواردات الوطنية، كان يمكن استثمارها في انعاش الاقتصاد باقامة مشاريع انتاجية حيوية، بحيث يساهم انتاجها في توفير السلع محليا والتقليل من استيرادها كما يوفر فرص عمل كثيرة تخفف من وقع البطالة وتحيي الامل في المستقبل.
ولكن بدلا من ذلك نرى ان الحكومة الحالية ماضية في هذه السياسة دون اعتبار لاي متغيرات اقتصادية تتفاعل مع تلك السياسة. وكمثال على ذلك، لفنترض ان سعر صرف الدينار بلغ 1250 دينار للدولار الواحد، وقد كان 1470 قبل ستة اشهر، فماذا يعني ذلك؟ ان ذلك يعني ان الدولار انخض بنسبة 15% ، وان سعر السلعة المستوردة سوف ينخفض بنفس النسبة. اي ان الطماطم المستوردة يفترض ان تباع بسعر يقل بمقدار 15% عن سعرها قبل ستة اشهر، بحيث اصبح انتاجها محليا غير مجد واقعا، مع الاخذ بنظر الاعتبار ارتفاع تكلفة انتاج بسبب ارتفاع اسعار الوقود وازمات الكهرباء غير المنتهية. لكن انخفاض سعر الطماطم ليس حقيقي، فالفرق تدفعه الدولة من عائدات تصدير النفط. فيا لسخرية الاقدار كيف يصبح النفط ومشتقاته عاملا في ازدياد همّ المنتجين، فمن جهة ازداد سعره عليهم ومن جهة اخرى قلل اسعار بضائعهم. فاي اقتصاد "صحي" هذا؟
لكننا نلمس ان اسعار معظم المنتجات القابلة للخزن لم يتغير بعد خفض الدولار عن سعرها قبل ذلك. بل ارتفعت اسعار بعض البضائع المستوردة لتبلغ اكثر من ضعف سعر المنشأ كما هو الحال مع الاسمنت مثلا. ويبدو ان السبب في ذلك انعدام ثقة التجار المستوردين في ثبات القيمة السوقية للدينار امام الدولار واحتمالية قيام الدولة برفع القيمة بشكل حاد مما يؤثر على رؤس اموالهم المقدرة بالدولار. فليس من الحكمة في شيء ان يجد المستثمر نفسه آخر العام خاسرا بفرق العملة عن اول العام رغم انه كان رابحا طوال السنة بمقاييس التجارة.
ولتوضيح ذلك، لنفترض ان تاجرا لديه رأس مال مقداره مليون دولار ويرغب في استيراد السمنت. فمن الطبيعي مثلا ان يفترض هامشا ربحيا مقداره 10% (هامش الربح في الواقع يعتمد على مقدار رأس المال المستثمر، ومقدار الطلب على البضاعة، والمنافسة التجارية لتوفيرها، اي قانون العرض والطلب). فاذا كان الدولار فقد 15% من قيمته امام الدينار خلال ستة اشهر، فان توقع انخفاض مماثل لا يكون امرا عسيرا. اي ان هذا التاجر ربما يتوقع ان يخسر 30% من رأس ماله (بالدولار) خلال العام، فاذا اضفنا هامش الربح الذ كان يتوقعه اصلا، فلن يكون مبالغا اذا وضع هامش ربح مقداره 40%. وبالتالي فان سعر البضاعة في السوق المحلية ارتفع بمثل هذه النسبة. طبعا الامر يشمل التجارة الداخلية ايضا طالما انها مقدرة بالدولار هي الاخرى. اما عامل المنافسة بين التجار المستوردين فلن يكون له تأثير كبير، اذ انهم جميعا يواجهون نفس الظروف من ناحية احتمالية انخفاض سعر صرف الدولار. ستكون منافستهم منحصرة فقط في تقديرهم لهذا الانخفاض.
اما الحديث عن ظاهرة "الدولرة" فلا يعدو ان يكون عاطفيا او مثاليا لا يمت الى الواقع بصلة. فقد حلّ الدولار الامريكي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في مرتبة العملة الاولى المعتمدة عالميا نظرا لقوة الاقتصاد الامريكي بالمقارنة مع اقصاديات الدول الصناعية الغربية الاخرى. وعلى هذا فالامر ليس متعلقا بالعراق او بالدينار، حتى يمكن وقف، او الحد من التعامل بالدولار. واذا كان بالامكان ان نجعل للدينار موقعا عالميا او اقليميا مميزا، ففي اقل تقدير يجب ان لا يربط بالدولار عن طريق التسعير المبتسر، او السيطرة الحكومية على اسعار الصرف. ومن الجدير بالذكر ان سعر صرف العملة المحلية امام الدولار وغيره من العملات الاجنبية لا يعكس قوة اقتصاد البلد. فالدينار الكويتي يعادل اكثر من ثلاث دولارات، بينما يبلغ سعر الدولار 3.75 ريالا سعوديا، مع ان اقتصاد كلا البلدين يُعد قويا (نتيجة واردات الثروة النفطية واستخدامها في الاستثمارات طويلة الامد).
اذن من المستفيد من رفع قيمة الدينار؟ اذا كان الجواب هم طبقة الموظفين وذوي الدخل المحدود، فسوف يكون ذلك تجريدا وتعسفا. فهؤلاء يمثلون الشريحة الاستهلاكية الاكبر في السوق، وبالتالي فان تشجيعهم على الاستهلاك سوف يقلل من القدرة على تحقيق موزانة تجارية بين الواردات والصادرات. وفي ظروف مثل التي يمر بها العراق، يبدو ان الافضل ان تعمل الدولة على عكس العملية لتصب في مصلحة الصادرات (الامر الذي لا يبدو ان الدولة توليه اي اهتمام يذكر).
اذكر ان العملة اليابانية (الين) ارتفع سعر صرفها امام العملات الاخرى فجأة اواسط التسعينات. وقد بلغ سعر الصرف قرابة الضعف امام الدولار آنذاك. وقد يبدو ذلك جيدا، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة للحكومة اليابانية التي تعتمد في عائدتها على تصدير المنتجات الصناعية الرخيصة نسبيا. ومع انخفاض سعر الدولار سوف ترتفع اسعار تلك المنتجات مما يقلل من قدرتها على المنافسة عالميا. وقد عمدت المصارف الحكومية على طرح كميات هائلة من الين للتداول لخفض قيمته واعادته على القيمة السابقة لتحقيق استقرار في سوق الاعمال وميزان الاستيراد – التصدير. طبعا لم تعمل الحكومة اليابانية على تحديد سعر الصرف، بل اتبعت نظام السوق في العرض والطلب، واستخدام احتياطي النقد لديها الذي لم يأت من تصدير ثروة طبيعية.
من جانب آخر، يدّعي المسؤولون الحكوميون ان الدافع لرفع سعر الدينار مقابل الدولار يكمن في ارتفاع معدل التضخم، ويحاولون اقناعنا ان التضخم سوف يزول او يقل باتباع هذا الاجراء. غير انني اعتقد ان ذلك مجرد تبرير، اذ ان التضخم هو ناتج طبيعي لانحراف الميزان التجاري نحو الاستيراد وخروج العملة الصعبة بدلا من دخولها عن طريق التصدير. وبالتالي فان كمية المعروض من العملة الصعبة يكون اقل من الطلب مما يرفع سعرها كأي بضاعة اخرى. واذا ارادت الدولة ان تحد من التضخم، فيجب ان ترعى عملية اصلاح اقتصادي شاملة تتضمن تشجيع الانتاج المحلي وتخفيض الفائدة على القروض المصرفية، واستغلال القدرات البشرية لاحداث نهضة زراعية وصناعية كبرى. ومن الواضح ان هذه الاجراءات معقدة وشائكة وتتطلب الكثير من الجهد والتنظيم والتطوير، بعكس قرار بسيط بتحويل جزء من واردات النفط لشراء الدولار وبيعه لاحقا بسعر اقل، للايحاء بان الدولة قد حدّت من التضخم، محققة بذلك انجازا اعجازيا!
وحتى على هذا الفرض، ما هي الضمانات ان واردات النفط ستكون كما هو متوقع؟ اذا نحينا جانبا عنصري التخريب والفساد الاداري في ادارة هذه الثروة الوطنية، اليس واردا ان يحدث انخفاض كبير في سعر بيع برميل النفط، بحيث يقل عن التوقعات الدنيا؟ فماذا سيحدث عندذاك؟ اذا عجزت الدولة عن دعم الدينار، متيحة لدورة السوق ان تأخذ مجراها، فلاريب ان سعر الدولار سوف يشهد تصاعدا صاروخيا، مسببا تضخما نقديا قد يكون من الصعب السيطرة عليه بسبب العامل النفسي للغلاء، والرغبة في الاقتناء خوفا من تصاعد محتمل في الاسعار.
وعلى كل حال قد يكون وجود نسبة مئوية بسيطة من التضخم سنويا امرا حميدا، حيث يدفع بالمواطن الى الاستثمار في السوق المحلية لتنمية المدخرات بدلا من الاقفال عليها في الخزنات باعتبار انه اذا لم يكن هناك تضخم فان قيمتها تزداد مع الزمن حتى مع عدم تشغيلها. وهذا هو الامر مع الدولار نفسه، حيث نشهد تراجعه امام عملات اخرى سنة بعد سنة، دون ان نرى تحركا جديا من الحكومة الامريكية لوقف هذا التراجع (بالاضافة الى عوامل محلية ودولية اخرى تخدم الادارة الامريكية في وضع الدولار "الضعيف").
اننا لا ندعو هنا الى رفع يد الدولة كليا في هذه المرحلة، ولكننا لا نرى اية فائدة من تدخلها المباشر لصالح الدينار. ونحن ندرك ان الحكومة الحالية ورثت اقتصادا منهكا وديونا دولية طائلة. لكننا نعتقد في الوقت ذاته ان بامكان الدولة ان تتبع اجراءات على المديين المتوسط والبعيد من اجل تحقيق نهضة اقتصادية كفيلة بتحسين وضع العملة ليس من ناحية سعر صرفها فحسب، وانما من ناحية الطلب عليها ايضا. سيكون من المشوق ان نرى يوما نستورد فيه بضائعنا، من دول الجوار على الاقل، بعملتنا الوطنية، لانهم يقبلون التعامل بها. سيكون ذلك افضل بكثير من ان يُعادل الدولار بالف دينار بينما يكون سعر البضائع المستوردة هو نفسه او اكثر من سعرها حينما كان الدولار بالف وخمسمائة او الفين دينار عراقي.

Tuesday, July 03, 2007

خواطر امام محطة لتعبئة الوقود

في احد صباحات حزيران القائضة، قررت ان اذهب بسيارتي الى محطة تعبئة الوقود لكي اعيد ملأ الخزان الذي شارف على استنفاد محتواه. وقفت في الطابور منتظرا، مرة اشعل سيجارة، وتارة ابتاع قنينة مشروبات غازية، لكن الطابور لا يبدو انه يتحرك. واخيرا عزمت على قضاء الوقت بشيء استمتع به اكثر. سوف اكتب مقالا في خاطري، لانني لا استطيع فعل ذلك من دون لوحة مفاتيح وشاشة وهاجة. طبعا سيكون المقال نتيجة لتأثري بوضع شاذ: الوقوف لساعات طويلة امام محطة التعبئة طلبا لبضعة غالونات من البنزين. اقول ان الوضع شاذ، لاني لا اعرف بلدا آخر يكون فيه وقود السيارة بمثل هذه الاهمية بحيث يصبح شغل الناس الشاغل على مدى عدة اعوام. وطالما قلت انه همّ الناس فقد نقلت مقالي الى مستوى اعلى: كفاءة الاداء الحكومي.
خطر لي ان ابدأ مقالي بعبارة ذات وقع مؤثر في النفس مثل: "يمكن اعتبار مؤشر خزان الوقود في سيارتك، مؤشرا على نجاح الحكومة او فشلها"، لكنني سرعان ما ثنيت نفسي عن ذلك، لان الحكومة قد تكون ناجحة في توفير بعض الخدمات الاساسية، او فاشلة في البعض الاخر. فلا يمكن ان نقيس قدرتها على فعل شيء او عدمه على انه مقياس لكفائتها ككل. لكنني لم اتستطع مقاومة اخذ مثل هذا المقياس بعين الاعتبار، لانه في الحقيقة اساسي لدرجة ان معظم الخدمات متعلقة بشكل مباشر او غير مباشر بتوفير الوقود. وبدأت افكر في مقياس آخر يكون له نفس الوقع، فخطرت لي عبارة: "ان نجاح الحكومة مرتبط بقدرتها على توفير الكهرباء، نصف الوقت على الاقل". وبدا لي ذلك منصفا، حيث ان الكهرباء، شأنها شأن وقود السيارات، يمثل عصب الحياة الحديثة، وذلك غني عن البيان. ولكني مرة اخرى ثنيت نفسي عن مثل هذه المسلمات. اذ لا يُعقل ان تعلق قدرة الحكومة، ذات النيف وثلاثين وزيرا، باكملها على امكانية بعض وزاراتها على تقديم الخدمات الضرورية، حتى وان كانت هذه الخدمات اساسية بدرجة يستحيل تصور الحياة بدونها. وهكذا رحت افكر في عبارات اكثر شمولية: "ان نجاح الحكومة مرتبط بقدرة مفاصلها الخدمية على تسيير عجلة الحياة اليومية". فالخدمات الصحية والبلدية والتعليمية، فضلا عن الطاقة والاتصالات، هي ما يهم المواطن بشكل مباشر وتؤثر في راحته ورزقه وتخطيطه لمستقبله.
ولكن مرة اخرى بدت هذه الفكرة قاصرة طالما انها اهملت اهم عامل يؤثر في حياة الناس ويقض مضجعهم، فعزمت على ابتداع عبارة اخرى تقول: "ان اداء الحكومة يقاس بقدرتها على حماية مواطنيها من اي اعتداء داخلي او خارجي". هذا مذهل، فان استطاعت الحكومة توفير الامن فان مقياس ادائها سيكون –لا شك- مرتفعا. لقد وقعت اخيرا على تعميم جيد. لكنه ليس جيدا بما فيه الكفاية ليتصدر المقال، فالناقد سوف يتصدى له بالقول: "لا يمكن قياس اداء الحكومة بالامن، اذ انها جاءت في ظل ظروف امنية خاصة، ولذلك يتطلب الامر وقتا وجهدا لكي تتمكن من ان تـُقارن بالحكومات العادية". وهذا –للاسف- كلام منطقي، ولا اجد له ردا.
"كلما قلّ فساد الدوائر الحكومية، كلما ازدادت كفاءة الدولة في توطيد اركانها وفرض سلطتها واحلال مبدأ سيادة القانون". لابد ان هذه العبارة تشكل تعميما افضل من سابقه طالما كان الخرق الامني يعود بالدرجة الاساس الى فساد اداري ضمن وزارات الدولة، وضمن مفاصلها الامنية تحديدا. لكنه مرة اخرى مردود بان الفساد الاداري ثقافة تربينا عليها وليس من سبيل الى التخلص منها في هذا الجيل. ونحن –واقعا- لا نعمل شيئا لنحارب هذا الوباء، فكيف نعتبره مقياس اداء اي حكومة؟
وتركت الافكار تنسال الى خاطري، حتى قدحت لي عبارة جديدة، اتصور انها ستغطي كل شيء، وستكون حل جميع المعادلات: "قدرة الحكومة وادائها متعلقة اساسا بامكانية تحقيق توافق سياسي يرضي، بدرجة مقبولة، جميع الاطراف ذات العلاقة". اليس هذا استنتاج معقول؟ اليست المشكلة (سياسية) وليست (امنية) كما يتردد بين الحين والحين؟ اذن يجب ضبط المؤشر الان على هذا الاداء، لنرَ كيف ستكون قراءته. اقترح ان تتصور عزيزي القاريء مؤشرا مشابها لذلك الموجود على لوحة القيادة في سيارتك، بالذات مؤشر خزان الوقود. هناك علامة تشير الى وضع الخزان الممتليء، وثانية الى وضع الخزان نصف ممتليء، واخرى بخط احمر تحثـّك على اعادة تعبئة الخزان. يوجد ايضا مصباح احمر ينذرك بان الخزان يكاد يكون فارغا تماما. والان عزيزي القاريء، اين تضع مؤشر اداء الحكومة سياسيا؟ لو كان جميع اعضاء مجلس النواب يحضرون جلساته (لا يقاطعون ولا يتغيبون)، ولو كان مجلس الوزراء مكتمل عدد الوزراء، لكان بامكاننا ان نضع المؤشر على ممتليء. ولو استغرق اشغال المقاعد الفارغة في مجلس الوزراء شهرا او شهرين فقط، لكان وضع المؤشر على نصف ممتليء منصفا. غير انه طالما كان لكل حزب او كتلة سياسية وزارة ما، علاوة على حصته من البرلمان، بحيث ان من غير الممكن عمليا تغيير وزير بسبب عدم الكفاءة، او اعتقال آخر بسبب تهم تتعلق بالارهاب، فلايمكن ان يكون المؤشر الا في مكان قريب من وضع الحث على اعادة تعبئة الخزان.
اعرف انك ربما ستقول: يجب ان يضيء المصباح الان. ولكني حقيقة لا اعتقد ان هذا المصباح سيضيء يوما. فقد اضطررت هذا الصباح الى ان انقل القمامة بسيارتي الشخصية مسافة لا بأس بها حتى اجد موقع ملائم لرميها، خارج المدينة. وحينما اصيبت زوجتي بوعكة صحية طارئة قبل ايام مما استدعى نقلها قبيل الفجر الى المستشفى، اكتشفت ان الطبيب هناك يعطي وصفة واحدة لكل المراجعين. وسوف تكون محظوظا ان وجدت حتى هذا العلاج البسيط الشامل في صيدلية المستشفى. ان صحة زوجتي مهمة جدا، ليس فقط لانها راعية البيت، ولكن ايضا لانها من يقوم بمهام تدريس الاولاد الذين يذهبون الى المدرسة ويعودون منها دون ان يتعلموا شيئا. معذرة، ربما تعلموا شيئا، مثل القول: اريد بطاقة شحن لهاتفي المحمول، التي لم نكن نعرف عنها شيئا عندما كنا بمثل عمرهم. فخدمة الاتصالات الارضية كانت اكثر من كافية.
نعم، توقفت معظم مصانعنا عن الانتاج لشحة الكهرباء والوقود، واصبحت اسعار سيارات الاجرة باهضة، وتمثل شريكا في راتب الموظف واجرة العامل، المضطرين الى الذهاب يوميا الى اعمالهم، متجولين بين عبوات ناسفة ومفخخات، ان لم تتوقف وسيلة النقل التي تحملهم بضعة ساعات عند نقطة تفتيش بسبب اشتباكات مع مسلحين. وصحيح ايضا اننا اصبحنا نستورد معظم احتياجنا من الخضر والفواكه من دول الجوار، رغم اننا بلد زراعي منذ قديم الزمان، قبل ان نتحول الى بلد نفطي فاقدا لمشتقاته معظم ايام السنة. كما لا يمكن انكار اننا لم نكن يوما بلد صناعي حقيقي حتى نفقد مثل هذه الصفة بسبب عدم قدرة الحكومة على توفير الكهرباء والوقود.
نظرت الى مقياس خزان الوقود وانا اقف في طابور الانتظار امام محطة التعبئة وهالني ان ارى المصباح وقد اضاء. يا للهول، ان لم اتمكن من مليء خزان الوقود هذا اليوم، فكيف ساعود بسيارتي الى البيت حيث ستقف في مرآبه الى يقضي الله امرا كان مفعولا؟ وفكرت من جديد ان الفكرة الاولى التي قدحت في بالي ربما تكون الاصح: "يمكن اعتبار مؤشر خزان الوقود في سيارتك، مؤشرا على نجاح الحكومة او فشله". هذا هو الحال على الصعيد الشخصي على الاقل. فان نجحت في رفع مستوى مؤشر خزان الوقود في سيارتي هذا اليوم، فساعتبر هذا اليوم ناجحا، على خلاف العادة. وان لم انجح، فهو فشل آخر.