Sunday, March 26, 2006

قراءة في رؤية الجعفري للعراق

نشرت صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، نقلا عن صيحفة واشنطن بوست الامريكية، مقالا كتبه الدكتور ابراهيم الجعفري يتحدث فيه باقتضاب عن مسيرة حكومته ورؤيته المستقبلية للمرحلة القادمة. وقد اعتبر ان انتخابات كانون الاول الماضي هي بمثابة "شهادة شجاعة شعبه [العراق] الذي رفض الخضوع لأي ديكتاتور أو إرهابي"، وهذا امر صحيح تماما، لكنه لم يلبث ان يستدرك قائلا: "... تشرفت بتسمية الائتلاف العراقي الموحد لي كي أقود أول حكومة منتخبة ديمقراطيا لكل الفترة المقررة." معتبرا ان ترشيحه من قبل الائتلاف يجعله في موقع القيادة بشكل نهائي، اذ لم يعرج على ذكر مجلس النواب، الذي عليه ان يمضي هذا الترشيح. ومع الاخذ بنظر الاعتبار ان تأخر تشكيل الحكومة لغاية الان انما كان بسبب اصراره على الترشيح لهذا المنصب، مقابل معارضة واسعة داخل وخارج الائتلاف، بما يشكل اغلبية برلمانية يعتد بها، فاننا نعتقد ان الجعفري لم يتعرف على كلمة "ديكتاتور" بعد، او انه لا يريد ان يتعرف بها.
وهو على صواب تماما حينما يقر بان "الحرب على الارهاب لا يمكن الانتصار فيها بالأساليب العسكرية فقط"، ولكننا لم نلمس الا جهودا ضئيلة بذلت من قبله لاحتواء الاطراف المسلحة، خصوصا في المناطق الغربية. وارتجاله في مؤتمر القاهرة، ووضعه للخطوط الحمراء في وجه الاطراف التي حضرت للحوار ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة، ليس الا دليل على عدم رغبته الجدية في قبول الاخر الذي يختلف معه. واذا كان قد سعى لان يحصل العرب السنة على "خمس المقاعد الوزارية"، فانه قد احتكر لنفسه من يمثل العرب السنة، واختار هؤلاء الشخوص بما يضمن ولاءهم له اكثر من الكفاءة الشخصية، او تحقيقا لرغبة من يفترض بهم ان يمثلوهم.
والحديث عن "اقصاء" مجموعة مقتدى الصدر من مجلس الحكم، هو محض تناقض. فهذه المجموعة بهذا التعريف لم تكن موجودة او معروفة كمجموعة سياسية لها جذور او حتى منهج ديمقراطي عند تأسيس مجلس الحكم. والغريب ان السيد الجعفري الذي لا تغيب كلمة التاريخ عن خطبه الرنانة، لا يعطي اي اهتمام للتاريخ القريب الذي عايشه الشعب كله، ولم يصبح بعد بحاجة الى كثير من التمحيص والتحقيق. وهو يُشرع بشكل ضمني تشكيل "جيش المهدي" على اساس حرمان تلك المجموعة من الدخول في مجلس الحكم. ولست ادري كيف يمكن لرئيس وزراء، واجه خلال العام الماضي حركات تمرد وعصيان ولا يزال، ان يفكر بهذه الطريقة. اليس معنى ما يقول ان من لم يحصل على مكان في العملية السياسية فعليه ان يحمل السلاح في وجه الدولة ليرغمها على القبول به؟ اما التصحيح الذي يتحدث عنه فهو ليس من فعله. فتيار الصدر كان ضمن قائمة الائتلاف التي جاءت به رئيسا للوزراء، ولم يكن هو من جاء بهم الى العملية السياسية. ولكنه ربما قصد تقربه الى هذا التيار في فترة حكومته، ضمن خطته في البقاء على سدة الحكم، بعد ان خمن انه لن يستطيع الاستمرار بمساعدة الحلفاء السابقين، فبادر الى عقد تحالفات جديدة، مع اطراف لها سيطرة مسلحة على الشارع، لفرضه على المنصب فرضا ان اقتضى الامر.
اما ادعاءه ان مجموعة الصدر لم تهاجم "أيا من وحدات قوات الائتلاف"، فهو اما جهل او افتراء. وكلاهما لا يليق بمن لازال يمسك بزمام الامور في العراق. وما عليه سوى ان يستمع الى الاخبار، كأي مواطن آخر، ليدرك ان تلك المجموعة تهاجم بشكل دوري قوات الائتلاف، بالاضافة الى المليشيات الاخرى التي وجدت بيئة صالحة للنمو في ظل تراخي حكومته العتيدة. ولست ادري من الذي اصدم مع القوات البريطانية في البصرة قبل اشهر، ومن الذي احرق ما يقرب من الف مقر لقوات بدر والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق بعد الاشتباه بان احدهم احرق مكتبه في النجف؟
واذا كان من اطر الديمقراطية اظهار بعض الشفافية، فان الجعفري لا يجد غضاضة في الحديث عن "انتكاسات" خلال فترة حكمه. ومع ذلك فانه تحدث عن واحدة فقط: "اكتشاف تعذيب السجناء في سجن تابع لوزارة الداخلية في تشرين الثاني"، ولكنه كان (حازما) تجاه "هذه الأفعال الشنيعة"، اذ قام بتشكيل "لجنة تحقيق تضم مسؤولين سنة فقط وأنتظر نتائج عملها"، فكم يا ترى سيستغرق عمل هذه اللجنة؟ لقد مضى لحد الان ما يزيد على خمسة اشهر دون ان تتوصل الى شيء، او تعلم رئيس الوزراء بنتيجة ما تعمل حسب ما يدعي. وربما ستظهر نتائج عملها بعد تغيير الوزراء والمسؤولين عن تلك الافعال، وعندئذ لا يهم ان تحملت الحكومة، التي حصلت في عهدها تلك الممارسات الشائنة، بعضا من المسؤولية. على ان حكومة الجعفري واجهت انتكاسات اكبر حتى من فضيحة معتقل الجادرية، فمن كارثة جسر الائمة الذي اثبت عدم قدرة الدولة على تنظيم ابسط الشؤون اليومية، الى تفجير اضرحة الائمة في سامراء والذي يعد دليلا على غياب سلطة الدولة في مناطق يفترض ان تكون موجودة فيها بقوة. ان تسيب القوات الامنية العراقية خلال عهد الجعفري، وطغيان المليشيات عليها، هو اكبر اخفاق في اداء حكومته. ولم يكن الجعفري قادرا على تشخيص هذا القصور، لانه امضى فترته وهو يعد لبقائه للفترة الدائمة. فبدلا من ان يكتسب شعبية من خلال عمله وادائه، سعى الى الحصول على تلك الشعبية عن طريق الترويج الدعائي، وبالاعتماد على الرموز الدينية لفرضه على الناخب باستخدام الهالات القدسية، والمخاوف الدنيوية والاخروية.
ومن بين جميع الانتكاسات التي واجهتها حكومته، فان الجعفري خص قضية تعذيب المعتقلين بالمزيد من التحليل. وطرح رؤيته لـ" الحل البعيد المدى لهذه المشكلة متعدد الوجوه"، من تدريب قوات الامن، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، "وفوق ذلك يجب على المليشيات التي قاتلت نظام صدام ان تندمج بالكامل مع قوات الأمن العراقية". وهذا اعتراف واضح بمسؤولية تلك المليشيات عن هذه الانتهاكات. بيد انه يلتمس لها العذر لتبرير افعالها طالما انها "قاتلت ضد نظام صدام". ولكننا لا نجد اي معنى لـ "تعزيز النظام القضائي في البلاد" ضمن هذا السياق، فمثل هذا التعزيز مطلوب دائما في اي نظام ديمقراطي حر. وليس لذلك من دلالة سوى ان مثل هذا التوجه اهملته حكومته عن عمد فيما سبق، مما ادى الى حصول هذه الانتهاكات.
ونحن نشارك الجفعري في ان "التحدي الكبير الآخر الذي تواجهه حكومتي فيتمثل في انعاش الاقتصاد"، ولكنه خلال فترة حكمه لم يفعل الكثير من اجل هذا الانعاش، واحتجاجه بـ"تقليص الدعم الحكومي للبنزين" كاحد التغييرات الصارمة التي بدأتها حكومته، ليس سوى مناورة مفضوحة. فالقرار كما يعلم الجميع كان بضغط من صندوق النقد الدولي للموافقة على تسوية الديون المتأخرة. والحكومة ناورت في تطبيقه، وادعت وجود بنزين محلي يباع بسعر مخفض، وآخر مستورد يباع بسعر اعلى. ولكن الواقع ان المحلي لم يكن اكثر من 5% من الاستهلاك العام. وهو في الوقت الذي ينحي باللائمة على " سياسات البعث الاشتراكية، التي جعلت الملايين يعتمدون على هبات الحكومة"، لا يجد ان قرار حكومته بتحويل العائدات الناتجة عن تقليل الدعم الى ما يقرب من مليون عائلة متماشيا كليا مع ذلك التوجه "الاشتراكي"، حيث ان هذا الرقم يعادل حوالي 20% من نفوس العراق. وبالتالي فان مراهنته تكمن في رفع "رأس المال السياسي" وليس في تحقيق تنمية شاملة تتيح "اقامة حماية للناس الاقل امتيازا"، من خلال توزيع الهبات والمنح. وحديثه عن "المقاولات والمشاريع" هو مجرد تعميم ليس فيه خطة واضحة، ويكشف عن جهل في ادارة الاقتصاد عن طريق تجريده الى مفردات بسيطة.
اما وعده بـ"ضمان واقع عراق ديمقراطي ليبرالي آمن، ليكون منارة للشرق الأوسط"، فهي رؤية متطابقة مع رؤية الادارة الامريكية، لخطب ودها في هذه المرحلة فيما يبدو. وليس خافيا ان تلك الاماني التي اعتبرها الجعفري "موضوع ايمان" لم تعد قابلة للتحقيق ضمن افق محدد. وهو يناور مرة ثانية حينما يأمل في "شرق اوسط آمن ومستقر وخال من الأسلحة النووية"، لارسال رسالة للادارة الامريكية بانه يدعم الجهود التي تبذلها في منع ايران من التسلح النووي. وهو يأمل، كما هو حال العراقيين جميعا، بـ"إلحاق الهزيمة بالإرهابيين بسلاح قوامه تصميم العراقيين" ولكنه غير واثق من هذه المهمة لانه لازال يحتاج الى "دعم القوات المتعددة الجنسيات". ولو انه اعطى المزيد من الثقة للقوات العراقية لكان برنامجه اقرب الى القبول. نحن ندرك ان دعم القوات المتعددة الجنسيات لا يمكن التخلي عنه في المدى المنظور، ولكننا كنا نأمل ان يرى الجعفري دور هذه القوات في تناقص مقابل مزيد من السيطرة الامنية للقوات العراقية، بما يساعد على انهاء الوجود الاجنبي في العراق.
نحن نتفق مع الجعفري بان "الطريق الممتد امامنا سيكون عسيرا"، ولكننا لا نرى ان الجعفري، حسب هذه الرؤية هو الشخص الامثل لقيادة العراق. فهو يتصرف كسياسي ينشد المنصب، ويفعل ما يتطلب منه للحفاظ عليه. وفي هذه المرحلة، فان من يقود العراق يجب ان يتحلى باكثر من ذلك، فالمناورات السياسية اضرت بالبلد فيما مضى اكثر مما اضر به وقع الارهاب، وتأخر التنمية الاقتصادية، وتردي الخدمات. وكل ذلك حقق خلال ولاية الجعفري اعلى معدلاته منذ سقوط الصنم.

Sunday, March 05, 2006

الحكومة العراقية ليست احجار دومينو

وصف احد السياسيين العراقيين مؤخرا صيغة تشكيل الحكومة العراقية بانها متعلقة بعضها ببعض بشكل يجعل سقوط احدها سببا في سقوط الاخريات على التوالي كما لو كانت احجار دومينو. وأوضح ان الترابط قائم على اساس ان اختيار رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان يجب ان يتم ضمن اتفاقية سياسية واحدة لضمان مرورها بشكل سلس امام البرلمان. والواقع ان هذا الوصف اقرب الى الصفقة منه الى تطبيق ديمقراطي لبنود الدستور الذي امضاه الشعب، والذي يجب ان يكون المرجع الوحيد للكيفيات والصيغ التي تشكل بها الحكومة بكافة فروعها ومستوياتها.
واول مؤسسات الحكومة هو مجلس النواب، والذي قضت المادة (53) من الدستور بان على رئيس الجمهورية ان يدعوه للانعقاد "بمرسوم جمهوري خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ المصادقة على نتائج الانتخابات العامة، وتعقد الجلسة برئاسة اكبر الاعضاء سناً لانتخاب رئيس المجلس ونائبيه، ولايجوز التمديد اكثر من المدة المذكورة آنفاً." وبما ان هذه المصادقة قد حصلت فعلا يوم 10 شباط 2006، فمن الواضح ان التأخير الحاصل الان هو مخالفة صريحة للدستور، اذ يجب ان لا يتأخر انعقاد البرلمان عن يوم 25 شباط. وقد يتذرع البعض بان هذا التأخير سببه الوضع الامني غير المستقر، او الاعتداء على الاضرحة المقدسة في سامراء، او ما تلاها من شغب يهدد بفتنة طائفية. ولكن هذه الاعذار ليست كافية لمخالفة الدستور، ناهيك عن كونها مجرد غطاء لتبرير التأخير الحاصل اصلا نتيجة عدم توصل القوائم الرئيسة الفائزة في الانتخابات على صيغ توفيقية وتوزيع المناصب بينها. واذا اعتبرنا ان الشغب والخلل الامني يُراد منه اصلا تعطيل المسيرة الديمقراطية واجهاضها، فمن الواجب المبادرة الى عقد هذا الاجتماع الاول فورا ليكون بمثابة رد وتحدي لتلك المحاولات. والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هو لماذا يجب ان يُعد كل شيء خارج مطبخ البرلمان، وما هي الحكمة في جلب اتفاقات جاهزة للتصويت الفوري في البرلمان؟ لماذا لا ينعقد البرلمان ويبدأ بمناقشة تلك الامور تحت قبته، وعلى مرأى ومسمع من العراقيين كافة؟ نعم قد يكون من المفيد وجود نوع من الاتفاق على المباديء الاساسية، او الخطوط العامة لتشكيل الحكومة، من اجل عدم هدر الوقت في مناقشات عقيمة داخل البرلمان، ولكن هل من الضروري ان تـُعقد كافة الاتفاقات مسبقا؟ ومن يضمن ان تلك الاتفاقات سوف تكون في صالح المواطن، طالما انها ليست مُعلنة، ولا دور لممثلي الشعب في البرلمان في اعدادها ومناقشتها ومن ثم تمريرها؟ فاذا قيل ان دورهم يكمن في المناقشات السابقة لتشكيل الحكومة، وبالتالي فانهم يقررون نيابة الشعب ويأخذون دورهم كاملا، قلنا ان تلك المناقشات تدور بين الاحزاب والقوائم، وليست بين النواب وان كانوا مشتركين فيها. بمعنى ان النواب لا يمثلون مجمل الشعب وانما يمثلون احزابهم، هذا اذا كان جميع هؤلاء مشتركين في المناقشات. واغلب الظن ان هناك نسبة محدودة فقط منهم لديها صلاحية التفاوض مع الاخرين، وعقد الاتفاقيات معهم باسم بقية النواب ضمن القائمة.
واستنادا الدستور يجب ان ينتخب مجلس النواب في اول جلسة له "رئيساً، ثم نائباً أول ونائباً ثانيا بالاغلبية المطلقة لعدد اعضاء المجلس بالانتخاب السري المباشر." حسب نص المادة (54). والاغلبية المطلقة هي نصف عدد المقاعد زائد واحد بغض النظر عن عدد الحاضرين. اي يجب ان يحصل المرشحون لمنصب رئيس مجلس النواب ونوابه على 138 صوت، كل على حدة. وبالحسابات الانتخابية لا تمتلك ايا من القوائم تلك الاغلبية منفردة. وهنا ظهر مبدأ التحالف مع القوائم الاخرى لضمان تصويتها لصالح مرشح ما. ولكن هذا التصويت لن يتم على اساس كفاءة المرشحين او برنامجهم وانما على اساس اتفاق مسبق اشبه ما يكون بالمحاصصة، التي يصرح الجميع برفضها!
فاذا تم ذلك، فان على مجلس النواب ان ينتقل الى المرحلة الثانية وهي انتخاب رئيس الجمهورية. فحسب المادة (67): "اولا: ينتخب مجلس النواب من بين المرشحين رئيساً للجمهورية باغلبية ثلثي عدد اعضائه. ثانيا: اذا لم يحصل اي من المرشحين على الاغلبية المطلوبة فيتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على اعلى الاصوات ويعلن رئيساً من يحصل على اكثرية الاصوات في الاقتراع الثاني." ان صياغة بندي تلك المادة بهذا الشكل جعل من ثانيهما بمثابة الغاء لاولهما، وهو ضعف واضح، شمل الكثير من مواد هذا الدستور نتيجة التسرع في اعداده، وهي من الاشياء التي يجب على البرلمان مراجعتها وتمحيصها. لكن الاحكام الانتقالية اوردت مادة اخرى عدها البعض ناسخة لهذه المادة، وهي المادة 134 وتنص: "اولا: يحل تعبير (مجلس الرئاسة) محل تعبير (رئيس الجمهورية) اينما ورد في هذا الدستور ويعاد العمل بالاحكام الخاصة برئيس الجمهورية بعد دورة واحدة لاحقة لنفاذ هذا الدستور. ثانيا: أ- ينتخب مجلس النواب رئيسا للدولة ونائبين له يؤلفون مجلسا يسمى (مجلس الرئاسة) يتم انتخابه بقائمة واحدة وباغلبية الثلثين...". فقد جرى تفسير هذه المادة على اساس انها تنسخ المادة (67) وتؤجل فعاليتها للدورة التالية. ولكن لا المادة (134) ولا غيرها اشارت مباشرة الى هذا النسخ والتأجيل. بل انها اشارت صراحة الى ما يتم استبداله هو تعبير (رئيس الجمهورية) فحسب. اي ان المادة (67) لا زالت سارية، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الرئيس له نائبان وينتخبون جميعا ضمن قائمة واحدة. فاذا كان المادة (134) قد حددت ان انتخاب مجلس الرئاسة يجب ان يحصل على ثلثي اصوات مجلس النواب، فانها لم تحدد الاجراءات التي يتم اتخاذها في حالة تعذر الحصول على تلك النسبة، عكس المادة (67) والتي اعطت حلا لتلك الحالة. وفي الحقيقة فان المادة (67) رغم تحديدات المادة (134) هي اخص وبالتالي اولى بالعمل فيها طالما كان الاولى العمل بالاخص قبل الاعم. وعلى هذا فان انتخاب مجلس الرئاسة قد يتم حتى بدون الحصول اغلبية مطلقة (138 صوت برلماني)، استنادا الى "اغلبية الاصوات في الاقتراع الثاني" التي ذكرتها المادة (67)، والذي يمكن ان يكون اي عدد من الاصوات يحصل عليه المرشح الفائز شرط ان يزيد على المرشح الاخر ولو بصوت واحد.
ورغم ان ما يشاع الان ويجري التركيز عليه هو ان اكبر معضلة تواجه البرلمان هي في انتخاب مجلس الرئاسة، الا انني اعتقد بناءا على ما تقدم ان اهون الشروط قد احيطت بهذه العملية نتيجة ضعف النص القانوني. على ان هذا الضعف لا يجعله غير قانوني، بل على العكس من ذلك تماما. فاي نص ورد ضمن الدستور هو قانوني ولكن يجب ان يفسر بالشكل الذي يدل عليه، وليس بالشكل الذي نريده له.
ويعتبر انتخاب رئيس الوزراء المهمة الاصعب لمجلس النواب، حيث انه في الواقع الشخصية الاكثر نفوذا والذي يمتلك اكثر الصلاحيات التنفيذية. وتنص المادة (74) على "اولا: يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الاكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية." وهنا نلاحظ ان تعبير "مرشح الكتلة النيابة الاكثر عددا" لا يعني القائمة التي فازت باكبر عدد من الاصوات، وانما القوائم التي تأتلف ضمن كتلة نيابية واحدة، اي ان منصب رئيس الوزراء ليس بالضرورة حصة قائمة الائتلاف العراقي الموحد، ما لم تتحالف مع قائمة او قوائم اخرى للحصول على النسبة الاكبر من الاصوات، او على الاقل على الاغلبية المطلقة. وذلك يعني نظريا ان ممن الممكن ان تتحالف جميع (او معظم) القوائم الاخرى لتشكل كتلة نيابية تفوق في عدد اصواتها كتلة الائتلاف. وعند حصول ذلك، يمكن ان يكون رئيس الوزراء من خارج الائتلاف رغم كونها تحوز على اكبر حصة من المقاعد البرلمانية.
كما ان المادة (74) اوردت جدولا زمنيا محددا لكيفية انتخاب رئيس الوزراء وما يترتب عليه فعلـُه ضمن هذا الجدول. فالبند ثانيا ينص على: "يتولى رئيس مجلس الوزراء المكلف تسمية اعضاء وزارته خلال مدة اقصاها ثلاثون يوما من تاريخ التكليف". فاذا اخفق في تشكيل الوزارة خلال تلك المدة فالبند ثالثا يقتضي: " يكلف رئيس الجمهورية مرشحا جديدا لرئاسة مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما". ثم يتوجب على رئيس مجلس الوزراء المكلف ان "يعرض اسماء اعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزا ثقته عند الموافقة على الوزراء منفردين والمنهاج الوزاري، بالاغلبية المطلقة" حسب البند رابعا. واخير فان البند خامسا يمنح رئيس الجمهورية صلاحية "تكليف مرشح آخر لتأليف الوزارة خلال خمسة عشر يوما في حالة عدم نيل الوزارة الثقة." ويبدو ان الغاية من هذا الجدول الزمني اعطاء الفرصة للمفاوضات بين القوائم للاتفاق على رئيس الوزراء (بعد 15 يوم من اختيار رئيس الجمهورية)، ثم اعطاء وقتا لرئيس الوزراء المكلف لتشكيل وزراته (خلال 30 يوم). فاذا فشل في نيل ثقة مجلس النواب فان على الرئيس ان يختار غيره ضمن 15 يوم اخرى. اي ان تشكيل الوزارة قد يستغرق 45 يوما، او 90 يوما في حالة فشل المرشح الاول. ومن الواضح ان تلك الفترة كافية لمثل هذا الاجراء، خصوصا وانها ستأتي بعد فترة تزيد على الشهر من اعلان النتائج المصادق عليها، اذ يتوجب اختيار رئيس البرلمان ومجلس الرئاسة قبلها.
ان افتراض ان الاتفاقات يجب ان تكون سابقة على انعقاد جلسات البرلمان هو امر غير منطقي، ويأخذ المسيرة الديمقراطية الى منزلقات وطرق جانبية تزيد من حالة الارباك التي يعاني منها البلد. والانكى من ذلك ان هناك توافقا بين القوائم على تأخير انعقاد البرلمان، فذلك يدل بوضوح على غياب الرغبة بالالتزام بنصوص دستورية وقانونية مرجعية من قبل جميع الاطراف، وبالتالي احلال مصالح حزبية محل تلك النصوص واجراء تفسيرات مبتسرة والتعلل بالواقع الامني الذي تسبب فيه غياب الالتزام بتلك النصوص والالتفاف عليها اكثر من كونه سببا لذلك الالتفاف وعدم الالتزام.
ان تشكيل الحكومة في ظل دولة القانون والمؤسسات لا يكون حسب نظرية الدومينو، لان ذلك سيكون حجر عثرة في ادائها طالما ان اطرافها معتمدة في تكوينها واستمرارها على بعضها البعض. وستكون هذه الطريقة في تأسيس الحكومة سببا في غض النظر عن انحرافات بعض اطراف السلطة، او عدم القدرة على محاسبتها. واخيرا فان الخوف من التساقط المتسلسل سيلغي دور المعارضة البرلمانية والحكومية وسيجعل الجميع متفقين على جميع الامور بغض النظر عن صوابها وتحقيقها للمصلحة العامة.