Friday, December 23, 2005

استراتيجية الدعاية الانتخابية لقائمة الائتلاف العراقي الموحد

يعتقد الكثيرون ان سر فوز قائمة الائتلاف العراقي الموحد الساحق في الانتخابات البرلمانية الاخيرة يعود الى حصول تلك القائمة على رضا المرجع الديني اية الله العظمى السيد علي السيستاني ومباركته لها، وبالتالي التأثير على مقلديه، وهم اغلبية الطائفة الشيعية، ودفعهم للتصويت لتلك القائمة كواجب ديني، تبرأ ذمتهم بأدائه. والواقع ان هذه الرؤية هي تسطيح للمسألة، وتبسيط مفرط لطبيعة الدعاية الانتخابية لتلك القائمة، التي حققت بتطيبيقها لاستراتيجية مدروسة نجاحا منقطع النظير، ليس على مستوى العراق فحسب، بل بالمقارنة مع أية انتخابات حرة تجرى في أية دولة في العالم.
ويمكن النظر لهذه الانتخابات على أنها امتداد للانتخابات التي سبقتها، والتي أجريت في الثلاثين من كانون الثاني 2005، وتأكيد لنتائج الاستفتاء في الخامس عشر من تشرين الاول. فقد كانت نتائج الانتخابات الاولى، وطبيعة توزيع المقاعد البرلمانية، وبالتالي الحقائب الوزارية، بموجب الاستحقاق الانتخابي قد شكلت خللا في فهم طبيعة الاداء الحكومي على المستويين التشريعي والتنفيذي، خصوصا مع غياب التمثيل البرلماني السني. نعم، كانت هناك محاولات لضم ممثلي المحافظات الغربية في الحكومة، وفي لجنة كتابة الدستور، ولكنها لم تحصل على التأييد الكامل من احزاب وتنظيمات تلك المحافظات، فضلا عن مرجعياتها الدينية. والمحك الاكثر خطورة كان في النزاع حول الدستور، ورفض الاعضاء السنة (المعينين) لمسودة الدستور، وتهديدهم باسقاطه في الاستفتاء عن طريق استخدام حق النقض الذي تتمتع به أية ثلاثة محافظات اذا رفض ثلثاها تلك المسودة. فقد برزت الى السطح تيارات الطائفية والمذهبية بشكل واضح، ووضعت جميع اطياف العراق العرقية والدينية امام امتحان "ان نكون او لا نكون"، بينما ابتعدت الاحزاب العلمانية عن الساحة واكتفت بدور المتفرج، بانتظار فشل الاحزاب الدينية، او ممثلي الطوائف، في خوض غمار التجربة، او خروجها منهكة وغير قادرة على الدخول بنفس القوة في الاستحقاق التالي.
ولكن قائمة الائتلاف اثبتت انها قادرة على دخول المعترك من جديد، واستثمار النجاح المحدود المتحقق في اقرار الدستور لصالحها. واكتسبت زخما معنويا من تصوير الخلاف حول الدستور على انه خلاف مذهبي او طائفي يمتد الى نزاع حول السلطة والثروات الطبيعية. وكان اعتراض ممثلو السنة على بعض بنود الدستور اداة مهمة بيد قائمة الائتلاف للدعوة الى مساندة المذهب والطائفة، وبالتالي خططت استراتيجية الدعاية الانتخابية على هذا الاساس. ولم يكن للاداء الحكومي الضعيف، ولا للاتهامات بالفساد الاداري، والفضائح التي تكشفت في المعتقلات اي دور في تلك الدعاية، لا نفيا ولا تبريرا. فقد قامت تلك الاستراتيجية على التركيز على الهدف البعيد للمواطن، وهو حماية الطائفة، اكثر من مخاطبتها للهدف الاقرب وهو تشكيل حكومة توفر الامن والرفاهية للشعب.
تتألف الدعاية او الحملة الانتخابية لاي كيان سياسي بشكل عام من ثلاثة مراحل: الاولى الاعلان عن وجود الكيان، والثانية إشعار الناخبين بانهم موجودون لدى الكيان، والثالثة تتمثل في توطيد الثقة بين الكيان والناخب. وكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث يجب تنجز ضمن فترة زمنية محددة، ووفق قواعد وأطر مدروسة مسبقا. والادارة الجيدة لتلك الحملة تضمن ان لا يكون للحدث الآني، او المفاجآت، تأثير كبير على مجريات اللعبة الانتخابية. واذا راجعنا الدعاية الانتخابية لمجمل الكيانيات السياسية خلال الانتخابات الماضية، لوجدناها اما تقع ضمن المرحلة الاولى، او انها تكافح لتجتاز المرحلة الثانية. فالغالبية العظمى من تلك الكيانات اكتفت بالملصقات واللافتات والدعاية المتلفزة المقتضبة. بيد ان المطلوب لحمل الناخب على التصويت لكيان سياسي معين ان يجتاز ذلك الكيان المرحلة الثالثة ضمن الاطار الزمني المحدد سلفا.
ولكن قائمتي الائتلاف والتحالف الكرستاني، استثناء من الكيانات السياسية الاخرى، استطاعتا ان تعبرا هذه المرحلة بنجاح، بدلالة النتائج الكبيرة التي حققها كل منهما. وبالنسبة لقائمة التحالف الكردستاني فان الامرغير مستغرب، نظرا لوحدة الاكراد عموما تحت هذه القائمة. اما فيما يخص قائمة الائتلاف، فلابد من وقفة تأمل في الاستراتيجة التي اتبعتها لتحقيق ذلك التقدم المذهل.
وتلك الاستراتيجية اتبعت ببساطة نهج المراحل الثلاثة المشار اليه آنفا. فقد استغرقت وقتا يسيرا للاعلان عن وجودها من خلال الملصقات واللافتات وغير ذلك. ولكنها اخذت وقتا اطول في استيعاب الناخبين، وخاضت عملية شاقة بصبر ودأب. فقد كان عليها اولا ان توضح طبيعة الاخفاقات الحكومية خلال الفترة التي تولت فيها زمام السلطة. كما كان عليها ان تهديء من روع المواطنين الذين يساورهم القلق حيال مستقبل العراق ووحدته في حال تسنمت هذه القائمة السلطة من جديد. وكان الهجوم خير وسيلة للدفاع. فبدأ التراشق الكلامي بالتصاعد، وعمد الائتلاف الى اظهار عيوب منافسيهم، او تضخيمها. وسعت تلك القائمة الى القاء التبعة في كل اخفاق تقريبا الى مرحلة سابقة، او الى التهديد الامني وسطوة الارهاب. لقد كان هذا السجال يدور عبر الشاشات، ولكنه كان يجد من يروج له في الشارع والمقهى والمسجد والدائرة الحكومية، وفي البيوت.
وهنا لابد من الاشارة الى تواجد مكاتب فعالة في معظم المحافظات للاحزاب الرئيسة في تلك القائمة، مقابل مكاتب ضعيفة او غير فعالة، او انعدامها على الاطلاق، للاحزاب الاخرى. وهذه مسألة في غاية الاهمية، طالما ان احتواء المواطن (الناخب)، وجعله يدرك بانه موجود لدى الكيان، يتطلب احتكاكا وتواصلا مباشرا ومستمرا. كما ان تلك المكاتب توفر طريقة شديدة التأثير في الدعاية الانتخابية من خلال استخدام الاشخاص انفسهم في الدعوة للكيان بدلا من الاعتماد على الوسائل التقنية، من اذاعة وتلفزيون وصحف وملصقات وغيرها. فقد يكون هناك تأثير للدعاية بطريق التلفزيون مثلا، ولكنها تصلح فقط لاجتياز المرحلة الاولى، مرحلة التعريف بالكيان. ولخوض المرحلة الثانية لابد من تواجد قريب من المواطن، ومن توجيه الحديث من فرد الى فرد اذا اقتضى الامر. ان الناخبين قد يصوتون للكيان الذي شاهدوا صورته في التلفزيون، او قرأوا لافتة تدلل عليه، ولكن اربعة اضعاف هؤلاء يصوتون للكيان الذي نصحهم به اصدقاؤهم الموثوقون، كما تظهر احدى الدراسات التخصصية.
من جهة اخرى فان هذا القرب من الناخبين يمكن من ممارسة الدعاية السلبية بشكل واسع، ولكنه لا يترك أثرا يقتفى في حالة الشكوى من هذا التصرف. فمن السهل تصدير اشاعة بين الناس حول امر ما حتى مع غياب الدليل، ولن يكون ممكنا عمليا اثبات من اصدرها. بينما سيكون من الصعب الحديث بشكل رسمي عن اية طعونات بالكيانات الاخرى دون توفر ادلة دامغة. ولكن المواطنين العاديون عادة لا يلاحظون الفرق، ويتناقلون الخبر والاشاعة بنفس القدر من الاهتمام والتصديق، اذا تواترت ا بما فيه الكفاية.
وفي الدعاية الانتخابية، شأنها شأن كل الفعاليات السياسية الاخرى، كل شيء جائز ما لم يمنع بقانون صريح. وقد يكون توجيه الخطاب الديني لحث الناخبين بالتصويت لقائمة او كيان سياسي امرا غير مقبول لدى البعض، ولكنه غير ممنوع قانونا. فالنظام رقم 8 لسنة 2005 الذي اصدرته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، ينص على انه "لايجوز لاي كيان سياسي او ائتلاف ان يضمّن حملاته الانتخابية افكارا تدعو الى اثارة النعرات القومية او الدينية او الطائفية او القبلية او الاقليمية بين المواطنين"، وهذا لا يمنع من استخدام الخطاب الديني طالما انه لا يتجاوز الممنوعات المذكورة. ولا اجد ما يمنع الكيانات الاخرى من استخدام اساليب مماثلة، اذا كانت اقرب الى قلوب المواطنين. ولست ادعو الى تسييس الدين، ولكن الى خلق التوزان الضروري لعدم انفراد جهة او قائمة او كيان ب عقول وقلوب الناخبين.
لقد نجحت قائمة الائتلاف من خلال تحدثها الى كل ناخب على حدة في كسب الثقة لديهم، واجتياز المرحلة الثالثة حتى بدون الحاجة الى فتوى صريحة بالتصويت لتلك القائمة. والخطاب الديني الذي تميزت به دعاية تلك القائمة، لم يكن ليغير من توجهات الناخبين بشكل كبير لو ان بقية الكيانات توجهت بذات القدر من الاهتمام الى الناخب الفرد وسعت الى ضمه واشعاره باهميته لديها وبالتالي اكتسبت ثقته. فعندها لن يكون سهلا التحول عن دعم ذلك الكيان، حتى ولو داعب الكيانات الاخرى عقيدته الدينية او ولاءاته العشائرية او غير ذلك من الضغوطات التي تستخدم عادة للتأثير على الناخبين.

Wednesday, December 21, 2005

مشروع قانون لإيجار العقارات التجارية والصناعية

في خضم العملية السياسية المتأزمة حينا والمنفرجة أحيانا أخرى، وفي ظل ظروف أمنية معقدة قلّ مثيلها في تاريخ العراق الحديث، ربما لا يُعدّ الحديث عن قانون لإيجار العقارات بنوعيها السكنية والتجارية أمرا ذا بال. والواقع ان الجمعية الوطنية، وان أنجزت احد أهم واجباتها وهو الدستور، إلا إنها أهملت بشكل واضح واجبات أخرى تتصل بصلب عملها كمؤسسة تشريعية، ذلك هو إقرار القوانين التي تمس حياة الناس بشكل مباشر، فضلا عن وضع الضوابط والتعليمات التي تكفل تطبيق هذه القوانين بشكل سلس وسليم.
وفي الحقيقة فان ما يهم المواطن العادي بالدرجة الأولى هو تلك القوانين والأنظمة المتعلقة بها، كونها تضع الأساس المادي للتعامل بين أفراد المجتمع ضمن إطار يتفق عليه الجميع، وتهيئ الظرف المناسب للاستثمار التجاري، وتمنع الاستغلال والانتهازية من التغلغل إلى نفوس بعض الأفراد الذين لا يردعهم عن تحقيق مآربهم على حساب الآخرين سوى قانون حازم يضع النقاط على الحروف. ومن ناحية أخرى فان تشريع القوانين هو استجابة لحاجات المجتمع من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وان تعلق بعض هذه القوانين بالنواحي السياسية والثقافية والأمنية بطبيعة الحال.
ان استغراق البلاد في عملية سياسية طويلة وشائكة يجب ان لا يمنع التفكير في مشاريع لاستصدار قوانين تمس حياة المواطنين ومصدر رزقهم، وتهيئ الأرضية للنمو الاقتصادي المتوقع من بلد الثروات المتعددة. وإذا كانت الجمعية الوطنية الحالية غير قادرة عمليا على مثل هذه التشريعات بسبب طبيعة توزيع المقاعد البرلمانية وسيادة مبدأ المحاصصة، علاوة على غياب ممثلي محافظات غرب العراق، فقد يكون من المناسب البدء بالتحضير لمثل هذه المشاريع لمجلس النواب القادم الذي قد يكون أكثر تمثيلا، واقل تعلقا بالمشروع السياسي.
ولا يخفى ان من أهم عوامل التباطؤ الاقتصادي في الوقت الراهن هو غياب التشريع الواضح الذي يرسم الإطار القانوني لعلاقة مالكي العقارات بمستأجريها، إثر قيام النظام السابق برفع اليد عن هذه المعاملة، وتركها حرة تـُحدد صُوريّا بين طرفيها، وعمليا عن طريق طرفها الأكثر قوة وهو مالك العقار. وفي الواقع ان تلك العلاقة كانت تحكمها قبل ذلك الإجراء الحكومي تنظيمات وقوانين وضعت القوة القانونية بيد المستأجر، الذي كان بمجرد توقيعه عقد الإيجار يصبح المالك الفعلي لذلك العقار مقابل بدل الإيجار غير القابل للزيادة قانونا. وقد أرادت الدولة ظاهريا –آنذاك- ان تعيد التوازن إلى هذه العلاقة غير المتكافئة بإلغائها العقارات التجارية والصناعية من قائمة العقارات التي لا تسمع المحاكم دعاوى إخلائها، شأنها في ذلك شأن العقارات السكنية، ولكن الاستثناء بقي بالنسبة لتلك الأخيرة. والحق ان هذا الإجراء ساعد في ازدياد العقارات التجارية المعروضة للإيجار، وشجع بناء المزيد منها ولفترة محدودة، ولكن على حساب ارتفاع بدلات الإيجار بشكل مضطرد وعدم خضوعها إلى ضوابط سوى تقدير أصحاب تلك العقارات، واضطرار المستأجرين إلى القبول بأي قيمة للإيجار –مهما تكن مجحفة- وإلا تعرضوا لفقدان مصدر رزقهم. وقد تكون هناك أسباب أخرى حملت الدولة على رفع الحماية عن المستأجر تتعلق بتحقيق ضربة تجارية كبرى للمتنفذين في تلك الدولة والذين اشتروا عقارات كثيرة بثمن بخس قبل صدور التشريع ثم ارتفعت أسعارها أضعافا مضاعفة بعد صدوره ودخوله حيز التنفيذ.
ونحن إذ نعتقد ان إعطاء المستأجر كامل الحق في التصرف هو أمر غير عادل، فإننا في الوقت ذاته لا نجد عدلا في إعطاء هذا الحق لمالك العقار وحده. وقد أثبتت التجربة الواقعية ان كثيرا من مالكي العقارات قد تصرفوا بشكل غير منصف مع المستأجرين الذين شغلوا تلك العقارات لفترات طويلة. وحتى الذين أعطوا بدلات إيجار مقاربة لمستواها السوقي لم يسلموا من التهديد بالطرد أو الإخلاء، واضطروا إلى زيادة تلك البدلات المرة بعد الأخرى، أو إخلاء محالهم التجارية ومصانعهم ومخازنهم وما شابه. وأدى ذلك إلى أضرار فادحة على مستوى الاقتصاد الفردي واقتصاد الأسرة، وصولا إلى الاقتصاد الوطني. ان انخفاض عدد العقارات الصناعية المشغولة تحديدا قد الحق بالتأكيد ضررا بالغا بالاقتصاد الوطني، نتيجة قلة المعروض من المنتجات المحلية والاستعاضة عنها بالمستورد، وما يترتب على ذلك من خروج للعملة الصعبة وارتفاع أسعار النقل التجاري وضياع الخبرات المحلية وإهدار المواد الأولية المحلية أو تصديرها بأثمان زهيدة.
وبناء على ذلك، يجب التفكير أولا بالمصلحة الوطنية العليا المتمثلة في تشجيع الصناعة والاستثمار الصناعي، والتجارة الداخلية، وتحريك مفاصل الاقتصاد الحر ضمن الضوابط العادلة لأطراف المعاملات كافة، ومنها معاملات الإيجار. كما يجب وضع البدائل المناسبة لضمان عدم وقوع احد طرفي المعاملة تحت الضغط المجحف، أو الشعور بغياب الخيارات التي تدفعه إلى الرضوخ أو الانصراف عن المشروع برمته. ونشير هنا إلى ان البلد يشهد حالة من الاستقرار المالي من ناحية ثبوت سعر صرف الدينار مقابل العملة الصعبة، مقارنة بفترة ما قبل السقوط التي تميزت بتدهور مستمر لسعر الدينار مقابل العملات العالمية. ومثل هذا الاستقرار كان يمكن ان يكون كفيلا بتحقيق استقرار في الأسعار بشكل عام. غير ان الأسعار السوقية ظلت في حالة من التصاعد لأسباب كثيرة، منها عدم الاستقرار الأمني، والطفرة التي شهدتها رواتب الموظفين، وانخفاض الإنتاج الزراعي والصناعي، وعودة المهاجرين وما شكل ذلك من ازدياد الطلب على البضائع، ونشوء طبقة المقاولين والتجار الجدد الذين حولوا أموالهم وودائعهم من العملة الصعبة إلى خارج البلاد بدلا من استثمارها داخله خوفا على حياتهم وأسرهم. كذلك تسببت العودة المفاجئة للمغتربين، وظهور رساميل كبيرة بيد طبقات كانت متوسطة، في ازدياد الطلب على العقارات والأراضي وبالتالي ارتفاع اسعارها بشكل خيالي وخلال مدة قصيرة يعجز السوق المحلي عن استيعابها. ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات بدلات الإيجار التجاري، تحقيقا لمبدأ الاستثمار العقاري الذي يعتمد أساسا على قيمة العقار في تحديد مقدار عائداته. وبالمقابل أدت زيادة معدلات بدلات الإيجار إلى ارتفاع أسعار البضائع بجميع صنوفها، ودفع المستهلك جزءا من هذا الفرق، ودفعت الطبقة الوسطى المُشغلة لهذه العقارات الجزء الآخر.
وأخيرا فان غياب النظام الضريبي قد ساهم هو الآخر في إطلاق يد مالكي العقارات، بالإضافة إلى الفساد الإداري والرشوة والمحسوبية في غير واحد من مفاصل الدولة، مما جعلها عاجزة عن التصدي للجشع والاستغلال التجاري، وشلّ دورها الرقابي سواء على العلاقات بين المالكين والمستأجرين، أو على مجمل العملية الاقتصادية المحلية.
ان محاولة استصدار تشريع لتحديد هذه العلاقة الحيوية، وتنظيم شؤون العقارات وكيفية وظروف استغلالها ستواجه حتما ما ذكرناه من عوائق، يضاف إليها ضعف الوعي القانوني وعدم الثقة بالدولة الموروث عن الحقبة السابقة، والذي ساهمت الدولة في وضعها الراهن على ترسيخه بإهمالها وانشغالها بالعملية السياسية كأولوية أولى. لذلك يجب التخطيط مسبقا لنشر وعي قانوني، والعمل على تعميق الثقة بالدولة وبإجراءاتها من خلال إشراك المواطن بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مناقشة مشاريع القوانين عموما، وعدم الانفراد باتخاذ القرار باعتبار مجلس النواب منتخباً وممثلاً للشعب. فالشفافية الحكومية مبدأ واجب التطبيق حتى بالنسبة للحكومات المنتخبة، لضمان بقائها قريبة من حاجات وآمال وتطلعات الشعب.
وإذا كان لنا ان نضع مسودة لمشروع هذا القانون، فجري بنا السعي استنادا إلى المعطيات أعلاه، الى ان يكون كما يلي:
ـ1ـ ان هذا القانون هو من اجل تحديد شكل العلاقة بين مستأجر ومؤجر العقار وهو المرجع الوحيد في حل الخلافات الناجمة عن العقد المبرم بموجبه، كما انه الأساس الوحيد لإجراء عقود الإيجار (التجارية والصناعية).
ـ2ـ تشرف الدولة على تطبيق هذا القانون عن طريق هيئة متخصصة تشكل من قبل السلطة التنفيذية المناسبة، وترسل الهيئة ممثليات لها في المحافظات على شكل لجان تنفيذية. ولهذه الممثليات والهيئة ذاتها صلاحيات البت في الخلافات ضمن اختصاصاتها، ويمكن لها الإحالة إلى المحاكم المختصة في حالات التعسف، كما يمكن استئناف قراراتها أمام المحاكم المدنية. وتكون قرارات المحاكم المختصة نهائية وملزمة لطرفي الدعوة وللهيئة وممثلياتها على حد سواء.
ـ3ـ تشكل الهيئة والممثليات لجاناً فنية تعمل على ترسيم مراكز المدن والاقضية والنواحي حسب القيمة السوقية لعقاراتها، وتعتمد سلما من خمس درجات (أو أكثر) في تحديد القيمة للعقارات التجارية:
أ) عقار درجة أولى في وسط المدنية ب) عقار درجة ثانية في وسط المدينة ج) عقار درجة أولى في الضواحي د) عقار درجة ثانية في الضواحي هـ) عقار في منطقة سكنية. كما تعتمد سلما من ثلاث درجات (أو أكثر) للعقارات الصناعية: أ) عقار درجة أولى في منطقة صناعية ب) عقار درجة ثانية في منطقة صناعية ج) عقار في منطقة غير صناعية.
ويعتمد تحديد الدرجة على كون العقار مطلا على شارع تجاري، ومقدار كثافة المرور الراجل والآلي، وسهولة وصول وسائل النقل بأحجامها المختلفة.
ـ4ـ تقوم الهيئة وممثلياتها بإعداد جداول للقيمة التقديرية لبدلات الإيجار اعتمادا على تصنيف العقار (الوارد في الفقرة (3))، إضافة إلى المعايير التالية:
أ) حالة العقار العمرانية وعمره الزمني.
ب) مساحة العقار الكلية، حيث تضاف فوارق نسبية لكل متر مربع تزيد عن الحد الأدنى للمساحة (حيث يحتاج إلى تشريع مستقل).
ج) عرض واجهة العقار، حيث تضاف فوارق نسبية عن كل متر طول يزيد على الحد الأدنى للواجهة (بما يحتاج إلى تشريع مستقل).
د) كون المحل المستأجر في الطابق الأرضي، أو الطوابق العليا أو الدنيا، حيث يخفض من القيمة التقديرية بنسبة مماثلة لارتفاع العقار أو انخفاضه عن مستوى الأرض. ان هذه النسبة ليست ثابتة وتعتمد على التسهيلات المتوفرة في المباني، كالمصاعد والسلالم الواسعة وما أشبه، فكلما زادت التسهيلات قلت نسبة التخفيض، وبالعكس.
هـ) مدة العقد، حيث تكون قيمة بدل الإيجار اقل كلما كانت المدة أطول، على ان يمنح المالك إعفاء ضريبيا مماثلا لهذا التخفيض (يحتاج إلى تشريع مستقل).
و) يجب ان تخضع جميع العقود إلى الإجراءات الضريبية، ويعتمد نظام ضريبي تصاعدي نسبة إلى قيم بدلات الإيجار كلاً على حدة، ويعتمد مبدأ التشجيع على قبول بدلات إيجار اقل من القيمة التقديرية مقابل إعفاءات ضريبية (يحتاج إلى تشريع مستقل).
ز) أية ضوابط أخرى محلية.
ـ5ـ إصدار تشريعات مناسبة لتنظيم شؤون العقارات في الأسواق الحرة، والمناطق السياحية والأثرية، وللاستثمارات الأجنبية، وللمشاريع الكبرى والمتوسطة، وكيفية استغلال الموارد المتاحة من مياه وطاقة ضمن حدود العقار أو ما يحيط به.
ـ6ـ تعمل الدولة على تشجيع بناء المجمعات التجارية من خلال القروض العقارية الميسرة. كما تأخذ على عاتقها تنظيم المدن لإنشاء أسواق بديلة لتخفيف الضغط عن الأسواق التقليدية، وإنشاء المناطق الصناعية، وبناء المجمعات التجارية والصناعية الصغيرة وتأجيرها بمستويات تقل بشكل واضح عن مستويات الإيجار السائدة لخلق الموازن العملي واستيعاب الفائض. كما يجب مراعاة عدم الإجحاف بمالكي العقارات بتدخل الدولة، أو تحويل الدولة إلى المالك الفعلي للعقارات التجارية والصناعية من خلال التوسع المفرط في هذا الإجراء.
ـ7ـ يطبق هذا القانون على العقارات التي سبق ان تم تأجيرها واستغلالها. وتعدّ كل معاملة سابقة باطلة قانونا، ولكن يمكن جدولة التطبيق خلال فترة زمنية مناسبة.
ـ8ـ يجب ان يضمن عدم تعديل هذا القانون أو إلغاءه قبل فترة مناسبة من دخوله حيز التنفيذ. كما يجب ان يكون التعديل بطريقة تضمن مشاركة النقابات المهنية، وغرف التجارة والصناعة، والشرائح الاجتماعية التي يشملها.
ـ9ـ يمكن اعتماد مبدأ الاستفتاء الشعبي لإقرار هذا القانون، وتعديله لاحقا، على ان يقرّ أو يعدل في مجلس النواب أولا.
ان هذا المشروع ليس إلا نتاج حالة تأمل يمكن أن تغنى من قبل المختصين بالقانون. كما انه يتطلب تشريعات قانونية أخرى قد تتعدى حدود الملكية العقارية والمعاملات بشأنها، ليتناول تحقيق تنمية اقتصادية شاملة وإشراك الدولة في تفاصيل هذه المعاملات. وقد يؤدي تدخل الدولة هذا إلى نشوء بيروقراطية إدارية معرقلة لمسيرة التنمية، ولكنها في الوقت نفسه ستكون، إذا أحسن بناؤها وتنظيمها، موازنا منطقيا لحماية أرباب المصالح والمستهلكين على حد سواء.

Thursday, December 08, 2005

المنافسة محصورة بين قائمة الائتلاف العراقي الموحد والقائمة الوطنية العراقية

المدى-لجنة البحوث والدراسات
تشير الأجواء العامة في أنحاء العراق كافة الى أن يوم الخامس عشر من كانون الأول الجاري سيشهد واحداً من أهم الأحداث السياسية في تاريخه المعاصر، حيث من المتوقع أن يتوجه قرابة خمسة عشر مليون ناخب الى صناديق الاقتراع في عموم البلد للإدلاء بأصواتهم في ثالثة ممارسة ديمقراطية خلال عام واحد، وهذا بمقاسات سياقات الديمقراطية السائدة في المنطقة، يعد إنجازاً بحد ذاته، وبغض النظر عن النتائج فأنها تأسيس وترسيخ لتقاليد ومناهج قد غيبت قسراً سنين طوالاً.
وتواصلا مع الحدث، أجرت لجنة البحوث والدراسات في مكتب (المدى) بمحافظة بابل استطلاعاً للرأي على أساس علمي مدروس، لمعرفة توجهات الناخبين، وعمق الوعي الانتخابي الذي تجسد من خلال الممارسات الانتخابية في الفترة المنصرمة. واستخدمت نموذج استبيان مكوناً من ستة أسئلة، إضافة الى بعض البيانات الشخصية، بدون ذكر الاسم، لاستخدامها في تحليل الإجابات المختلفة وتبيّن تأثير عوامل مثل الجنس والسكن والعمر على طبيعة اختيارات أفراد العينة المختارة عشوائياً. حيث تم توزيع 460 استمارة استبيان في أنحاء محافظة بابل، بشطريها الحضري والريفي. وقد شابت عملية توزيع الاستمارات مجازفة غير هينة في الوصول إلى مناطق توصف بالساخنة. وشمل الاستبيان مدن الحلة والمحاويل وناحية الإمام والقاسم والمسيب والسدة والمدحتية والنيل والكفل والهاشمية والطليعة وأبو غرق، علاوة على الكثير من القرى المحيطة بهذه المدن. وقد تم إعداد قاعدة بيانات حاسوبية لإدخال البيانات وتحليلها، ولاستخراج النتائج بأكثر دقة ممكنة.
وبلغ عدد أفراد العينة 460، وكان عدد الذكور 330 والإناث 130، توزعوا بين 172 من سكنة مدينة الحلة و288 من سكنة الاقضية والنواحي والقرى التابعة لمحافظة بابل.
الأغلبية الساحقة ترغب بالمشاركة في الانتخابات
يبدأ الاستبيان بسؤال حول رغبة المستطلعة آراؤهم بالمشاركة في الانتخابات المقبلة. ويبدو أن خيار المشاركة في الانتخابات يطغى على معظم التوجهات، فقد بلغت نسبة الراغبين بالمشاركة 96.7%، بينما لم تتعد نسبة مقاطعي الانتخابات 3.3%. ومن دلالات النتائج التي أظهرها الاستبيان أن هنالك توجهاً عاماً قوياً لدعم العملية السياسية الجارية في البلد من خلال الإسهام الفاعل في عملية الاقتراع. وهو ما يعكس التطور النوعي في الممارسات الديمقراطية، وانحسار نزعة المقاطعة. الا ان المشاركة قد لا تصل الى هذه النسبة العالية بسبب معوقات كثيرة يفرضها الوضع الاستثنائي، والظروف التي تتحكم بالحالات الفردية يوم الانتخاب.
التنافس محتدم بين الائتلاف والقائمة الوطنية
أظهرت نتائج الاستبيان أن التنافس يكاد ينحصر بين قائمة الائتلاف العراقي الموحد برئاسة عبد العزيز الحكيم والقائمة الوطنية العراقية برئاسة د. أياد علاوي. وحصلت قائمة الائتلاف على النسبة الأكبر من الأصوات وتبلغ 46.1% من مجموع أفراد العينة، تلتها القائمة الوطنية بنسبة 24.6%، بينما تنافست باقي القوائم ضمن نسبة 15.5% فقط، برغم أنها في غالبيتها محلية، وكان من المتوقع أن تحصل على دائرة تأييد أوسع. ومن الجدير بالذكر أن القانون الانتخابي يحتم على القائمة الحصول على ما لا يقل عن نسبة محددة قبل إمكانية ضمها الى مجلس النواب، وتبلغ هذه النسبة بمحافظة بابل 9% لان عدد المقاعد المخصصة للمحافظة 11 مقعداً.
ومن الملاحظات اللافتة للنظر التي تجلت في الاستبيان أن نسبة الإناث الراغبة في التصويت للقائمة الوطنية تزيد على نسبة الذكور (28.5% مقابل 23%)، بينما جاءت النسب متساوية تقريباً بين الإناث والذكور الراغبين بالتصويت لقائمة الائتلاف (46.2% مقابل 46.1%). غير أن النتائج عكست تقدم سكنة الاقضية والنواحي والقرى الراغبين بالتصويت لقائمة الائتلاف بنسبة كبيرة على نظرائهم من سكنة مركز المحافظة (53.3% مقابل 37.5%) وينطبق الأمر على المصوتين للقائمة الوطنية ولكن بنسبة أقل (26.3% مقابل 23.8%). ويبدو أن سكنة المركز يتوجهون صوب القوائم الأخرى أكثر من سكنة خارج المركز (25% مقابل 10.9%)، وهذا ناجم عن مشاركة واسعة لقوائم مركز المحافظة.
يظهر تحليل الاستبيان استناداً للفئات العمرية أن أغلب المصوتين الذين تقع أعمارهم بين 30-39 سنة يميلون باتجاه قائمة الائتلاف بنسبة 53.3% في حين أن المصوتين للقائمة الوطنية بلغت ذروتهم في الفئة العمرية بين 50-59 سنة وبنسبة 28%، والملاحظ أن مصوتي القائمة الوطنية تزداد نسبتهم بتقدم العمر، وهو انعكاس لتباين تطلعات مختلف الفئات العمرية.
البرنامج السياسي والواجب الديني
وعند تحليل إجابات أفراد العينة على السؤال الوارد في استمارة الاستبيان: ما هو الأساس الذي تعتمده في التصويت؟، ظهر أن نسبة 51.1% تعتمد البرنامج السياسي في تحديد خيارها، ونسبة 30.8% تعتقد أن التصويت واجب ديني للقائمة التي ترغبها، فيما كانت نسبة 13.7% تروم التصويت دعماً لرئيس القائمة، ولم تحض الأسباب العشائرية الا بنسبة ضئيلة بلغت 1.1%، برغم أن عدد المشاركين من خارج مركز المحافظة يقارب ضعف عدد المشاركين من المركز، مما يدلل على أن التأثير العشائري في محافظة بابل لا يشهد رواجاً بين الناخبين خلافا للرأي السائد بهذا الشأن.
أن نسبة المصوتين لقائمة الائتلاف بوصفه واجباً دينياً 58% بينما كانت نسبة المصوتين للقائمة الوطنية اعتماداً على البرنامج السياسي 76.1%. وقد انعكس دعم رئيس القائمة الوطنية بنسبة 19.5% مقابل 1.9% فقط صوتوا لرئيس قائمة الائتلاف، وظهور هذه النتائج بتلك الصيغة يجسد استقطابات الرأي العام موزعا بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي، وتشابها مع ما أفرزته نتائج الانتخابات السابقة، وفيها دلالات على أن هذا الاستقطاب سيبقى في الساحة السياسية العراقية للفترات القادمة.
ومن المفارقات الطريفة أن هناك خمسة أفراد من العينة، يشكلون نسبة 4.5% من الذين صوتوا للقائمة الوطنية اتخذوا قرارهم بالتصويت لها كونه واجباً دينياً، رغم غياب الخطاب الديني في الدعاية الانتخابية لهذه القائمة المعروفة بالتوجه العلماني. والأرجح أنها سقطات من قبل هؤلاء الأفراد لا تعبر بدقة عن وجهات نظرهم.
تفاؤل عام بمرحلة ما بعد الانتخابات
وتضمن نموذج الاستبيان مجموعة من الأسئلة حول ما يمكن أن تسهم فيه الانتخابات. وقد أظهرت النتائج أن معظم أفراد العينة متفائلون بان الانتخابات ستساهم في تحسين الوضع الأمني (85.2%)، وتحسين الخدمات (77.4%)، ودفع عملية إعادة الإعمار (74.8%)، وحل مشاكل البطالة والضمان الاجتماعي (72.8%).
معرفة محدودة بالمرشحين
آخر أسئلة الاستبيان يدور حول مدى معرفة الناخبين بمرشحي القوائم المتنافسة، واتيحت لأفراد العينة الاختيار من بين ثلاثة خيارات تدلل على حجم تلك المعرفة. وقد بيّن 24.8% من أفراد العينة الراغبين بالتصويت، والذين اتخذوا قرارهم بالتصويت لقائمة معينة، أنهم لا يعرفون سوى رئيس الكيان الذي سيصوتون له. وأفادت أغلبية هذه الفئة (52.2%) بأنهم يعرفون بعضا من مرشحي قائمتهم المفضلة، بينما ادعت 9.1% أنها تعرف جميع المرشحين. ولا نجد هذه النتائج غريبة بالنظر للوضع الأمني غير المستقر، والذي يحول دون إعلان أسماء المرشحين بشكل واسع، ولقصر الفترة الزمنية المتاحة للدعاية الانتخابية. والظاهر أن اغلب الناخبين يثقون باختيارات رؤساء القوائم لبقية المرشحين.
وتجدر الإشارة الى أن نتائج هذا الاستبيان لا يمكن أن تطبق على عموم العراق، بسبب اختلاف التوجهات العامة بين منطقة واخرى، ولكن هذه النتائج يمكن ان تعبر - عموما- عن الرأي العام في مناطق وسط وشرق العراق، وربما جنوبه أيضا. من جهة ثانية، فان التصويت الفعلي في الانتخابات القادمة قد يختلف نسبيا عن نتائج هذا الاستبيان، سيما وجود نسبة كبيرة من المترددين، الذين يمكن أن يصوتوا لصالح قوائم غير رئيسة، وبالتالي تتغير موازين القوى. ومن المعروف ان الناخب في مرحلة يكون عرضة للتأثيرات المختلفة، ويكون للاحداث اليومية في الاسبوع او الايام القليلة التي تسبق يوم الانتخابات تأثير مباشر على قراره.