Thursday, November 10, 2005

الحور العين: الإرهاب بعيون عربية

عرضت قناة (ام بي سي) الفضائية خلال شهر رمضان المبارك مسلسلا متميزا يتحدث لأول مرة عن موضوعة (الإرهاب) في سياق درامي – اجتماعي لا يخلو من التشويق، وان تعرض –كغيره من الأعمال الدرامية خلال شهر رمضان- إلى المطّ والإسهاب، من اجل بسط مادته خلال الشهر الفضيل. وهو إنتاج سوري-سعودي مشترك، وعرضته هذه القناة بشكل حصري. ويأتي عرض هذا المسلسل بعد ان اخفقت القناة في عرض كامل المسلسل (الطريق الى كابول)، والذي يتحدث عن موضوع مشابه، في رمضان العام الماضي نتيجة اخلال المنتجين بالتزاماتهم على ما يبدو.
ويمكن ان يقسم مسلسل الحور العين إلى محورين أساسيين اولهما محور اجتماعي يتحدث عن سكان مجمع (المحيّا) في مدينة الرياض والذي تعرض إلى عملية إرهابية من قبل الجماعات المسلحة في المملكة العربية السعودية. وقد حاول القائمون على هذا المسلسل ان يتعرضوا لحياة الناس العاديين، وجلّهم من العرب المغتربين العاملين في السعودية، ويفصلّوا الكثير من الشؤون اليومية للاسر المختلفة في بيوتها، لحمل المشاهد على التفاعل والتعاطف معها، وتهيئته نفسيا لنبذ وشجب العمليات المسلحة التي سيقعون ضحايا لها فيما بعد.
أما المحور الثاني في هذا المسلسل فيدور حول عناوين الارهاب، والجهاد، والتطرف. ويعرض لنقاشات حادة ومباشرة في أحيان كثيرة حول صواب هذه الأعمال وجدواها. ويتابع سيرة شاب سعودي يُغرر به من خلال الأفكار المتطرفة والاستخدام المبتسر للنص القرآني والنبوي والمأثور عن السلف الصالح. وهو يستعرض كذلك النوازع النفسية لهذا الشاب بين دواعي الجهاد وتأصله في العقيدة، وبين الدعوة الحسنة والقيم والمثل الدالة على نبذ العنف وقبول الآخر وروح التسامح في الدين الإسلامي.
والواقع ان المسلسل في محوره الاجتماعي لا يعدو ان يكون عملا متوسطا، وغير جدير بان يوصف بالمتميز. ولكنه، ومن خلال تطرقه لموضوعة الارهاب، ينتقل الى تفرّد قلّ نظيره نظرا للحساسية البالغة التي يعالج بها هذا الموضوع، رغم انه بات يلقي بظله على حياة الناس في غير واحد من البلدان العربية والإسلامية. كما ان واضعي القصة لم يهتموا كثيرا بتحريك الأحداث لإضفاء التشويق عليه، فجاءت معظم الحلقات تكرارا لأحداث وحوارات ونقاشات في حلقات سابقة. وهم لم يهتموا كذلك بإيجاد نهايات لتلك الأحداث، حيث راهنوا على الحدث الأكبر الذي يشكل محور المسلسل وقضيته، وهو التفجير الارهابي الذي ازهق أرواح معظم أبطال المسلسل. ولعل عِلم المشاهد بالمصير الذي ستؤول إليه الشخصيات جعله غير مكترث هو أيضا بالحبكة الدرامية، وكيفية التقاء الخيوط المتفرقة، وحلّ العقد الرئيسة في هذا العمل الدرامي.
لكن المسلسل نجح بشكل لافت في الإشارة إلى خطر التطرف، وصرح بوضوح إلى منابعه وبيئته الخصبة: الجوامع والحلقات الدراسية الدينية. وشكلت شخصية رجل الدين المستنير، والمحب للحياة والناس، مفتاحا لمواجهة قوى الظلام التي تسكن الكهوف وتتجول في البراري. وجاءت الحوارات بين هذين الطرفين المتناقضين بمستوى متفوق أحيانا، بما يفتح الباب أمام حوارات أخرى في المستقبل، وان كان طرفاها يستقون مادتهم ومرجعهم في جدالهم من ذات المنبع. ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان المسلسل يتحدث بالدرجة الأولى عن التطرف الديني في السعودية تحديدا، فمما لاشك فيه ان تلك الطروحات تعدّ ثورية، وغير مسبوقة بهذا الكم والحجم.
وهذا يقودنا إلى ملاحظة مهمة. فموضوعة الارهاب تتم مناقشتها ضمن حوارات هذا المسلسل من زاوية حدوثه في المملكة تحديدا. ويقدم المسلسل إدانة واضحة لهذه الاعمال، ويتحيز باستخدام حيل ووسائل إخراجية فنية، ضد من يروج للعنف والتطرف. ويوجه كذلك نقدا اجتماعيا يضاف للنقد الديني والسياسي للأفكار المتطرفة التي أخذت تغزو المجتمع السعودي خصوصا، والعربي عموما. بيد ان هذا النقد ظل ضمن حدود جزيرة العرب. ولم يسعَ المسلسل إلى توسيع دائرته لتشمل المناطق الأخرى التي تعاني من ذات البلوى، كالعراق وفلسطين وأفغانستان واندونيسيا والشيشان والفلبين، ناهيك عن وقوع أعمال الإرهاب في غير بلاد المسلمين. بل ان رجل الدين المعتدل لا يرفض صراحة، وربما يوافق أيضا، على ان الجهاد في تلك الأماكن هو جائز وشرعي، وان حدد لذلك شروطا عديدة.
ويخيل الينا ان المراد من ذلك هو توجيه التطرف السعودي الى خارج المملكة، والنظر على ان اقتراف أعمال العنف ضد سكانها، وان كانوا غير سعوديين، هو جريمة وخطيئة كبرى. بخلاف ما يحدث من أعمال مماثلة في العراق مثلا، على اعتبار ان العراق (محتل)، وبالتالي فهناك مسوغ لتلك الأفعال. ونشير هنا الى تنويه رجل الدين حول فشل اعمال العنف في العراق في تحقيق اهدافها، حيث يؤكد ان عديد الضحايا بين المدنيين العراقيين يزيد على عشرين ضعف عددهم بين القوات الامريكية. ولكن مثل هذه الاشارات كانت نادرة وهامشية الى حد ما. ولكننا للإنصاف نقول ان اية محاولة لتوسيع نطاق المسلسل ربما كانت كفيلة بإفشاله ورفضه ككل. فالمسلسل جاء استثمارا للمدّ المعارض للعنف في المملكة نتيجة تفجير (المحيّا) والأعمال الإرهابية الأخرى، ورغبة المجتمع السعودي في الحدّ من تلك العمليات في هذا البلد. ويمكن اعتبار ان هذا المسلسل هو خطوة أولى ربما تتلوها خطوات في المستقبل، عندما يكون المجتمع أكثر استعدادا وتهيؤا لنبذ أعمال العنف أينما وقعت.
والمسلسل أهمل عن عمد الخوض في حياة غير العرب الساكنين في نفس المجمع، والذين راحوا هم أيضا ضحايا لنفس العملية الإرهابية. وجزء من ذلك يعود إلى الأسباب ذاتها في تضييق النطاق المستهدف، وفي محاولة استعطاف المشاهد على الشخوص التي يشعر بالألفة تجاهها من ناحية اللغة والدين والأصل المشترك. نعم، كانت هناك شذرات بين الحين والآخر تدعو إلى حفظ نفوس (المعاهدين) و(الذميين)، ولكن بالمقارنة مع خوض المسلسل في أدق تفاصيل الحياة اليومية للضحايا من العرب، فمن التجني اهمال ذكر جيرانهم القادمين من دول غربية، والذين لا نشك انهم كانت تربطهم روابط الجيرة الحسنة، والتوحد في الإنسانية مع سكان المجمع من العرب.
والشخوص في هذا المسلسل هي صفات مجردة. فالمهندس خريج الجامعات الفرنسية متكبر ومغرور، ولا يملك حسا فنيا، ويعامل زوجته الفقيرة وغير المتعلمة بكل قسوة وازدراء، رغم ثقافته واحتكاكه بالمجتمع الفرنسي الحر من خلال زواج سابق فاشل. والتاجر السوري مستغرق دائما في عمله ولا يهمه من حدوث هجوم إرهابي إلا مقدار تأثير ذلك على تجارته، رغم ان مثل هذه الأعمال تعد أمرا نادرا في الرياض. ورجل الأعمال الأردني-الفلسطيني هو أب قاس متغطرس رغم اقترانه بزوجة مثقفة ومعلمة مثابرة. والفنان اللبناني عصبي المزاج على طول الخط ومنطوٍ على نفسه، كما ان زوجته لا تسعى إلى فهمه ومشاركته همومه بقدر ما تركز على ذاتها وسأمها ووحدتها. والأمر ذاته بالنسبة للكاتبة المغربية التي تشعر بالاستعلاء على زوجها الميكانيكي، الذي يتصف هو الآخر بالجشع دائما.
ومع ذلك يتطرق المسلسل في ناحيته الاجتماعية لنموذج من تأثيرات العولمة والثورة المعلوماتية من خلال قصة حب بين الفتاة السورية وشاب سوري يعيش في الولايات المتحدة. ويحمل حوارهما عبر برامج المحادثة قيما تربوية واجتماعية عليا، يرسلها في غالب الأحيان الطرف الذكري مما يوحي بتأثير الثقافة الغربية عليه. وفي غير هذا النموذج كانت معظم الشخصيات الذكرية الاخرى متصفة بالسلبية أو الأنانية وحب ألذات، باستثناء شخصية أستاذ الجامعة المصري الذي يقنع بعدم قدرة زوجته على الإنجاب ويواسيها على ذلك، وان كانت هي ذاتها غير قانعة وتكرر التذمر والتشكي من حالها وفشلها كامرأة في كل حلقة تقريبا. أما النساء فقد كنّ -عموما- اكثر ايجابية وقدرة على التأثير في الأحداث. والواقع ان هذا الفصل والتميز في الشخصيات نادرا ما يقع، وان كل إنسان يحمل سلبيات وايجابيات. ومن ميزات العمل الجيد ان يسعى لإظهار كليهما في الشخصية لجعل العمل أكثر واقعية.
يبقى ان استعمال القائمين على هذا المسلسل لشخصية المواطن السعودي الراغب في إقامة الفريضة الغائبة، وتردده بين آراء المتطرفين ودعوتهم الجهاد، وبين محاضرات الشيخ المعتدل التي تنبذ العنف، يمثل محاولة لتشخيص كيفية تجنيد المُغرر بهم الذين يتم استعمال أجسادهم في الأعمال الإرهابية. لكن هؤلاء فاتهم ان التجنيد لا يكون في مدى أيام أو اشهر، وان التهئية النفسية وغسل الدماغ ربما يستغرق سنوات. وان هؤلاء المُغرر بهم يتم استدراجهم في اعمار مبكرة وقبل خوضهم في ملذات الدنيا وتعرفهم عليها، لضمان عدم تراجعهم وفشلهم في تنفيذ الأوامر الموكلين بها. ويمكن ان نعدَّ الخاتمة المفبركة للانتحاري المفترض والذي يقرر العودة عن فعله وتفجير السيارة الملغمة التي كان يقودها في الصحراء بدلا من الهدف المقرر أصلا، يمكن ان نعدَّ ذلك ضربا من التمني، والذي لا يمكن تصديق حدوثه بهذه السهولة.
ومن ناحية أخرى فان التحقيق مع احد المعتقلين الذين داهمتهم القوات الأمنية وتمكنت من إلقاء القبض عليه لا يرقى إلى مستوى عمل فني متخصص. وجاء هذا التحقيق في اغلبه بصيغة حوارات جوفاء وتكرار لعبارات بعينها يقولها المحقق، يقابلها استهزاء واضح من المتهم. وحتى اعتراف المتهم اخيرا وإرشاده لوكر الجماعة الإرهابية لا يمكن ان يصدق، وهو ايضا يقع في دائرة التمنيات. وأكاد اجزم انه لو كانت هذه هي الوسيلة التي تحقق بها القوات الأمنية السعودية فلن تتمكن من معرفة سوى النزر اليسير من المعلومات، وأنها ربما لن تستطيع –بهذه الطريقة- مواجهة آفة الإرهاب فضلا عن القضاء عليها.
ان المسلسل الذي عرضته الـ (ام بي سي) جاء في فترة حساسة من تاريخ الأمتين العربية والإسلامية، لتزايد الأعمال الإرهابية المستندة العقيدة الاسلامية. ومجرد تصديه لبحث هذا القضية هو بلا شك شجاعة كبيرة، وخروج عن النمطية، وإحكام للعقل مقابل العاطفة الهوجاء التي تتسم بها الشعوب الشرقية عموما. وإذا كانت قناة (ام بي سي) قد اتخذت شعارا في موقعها على الانترنت (العالم بعيون عربية)، فإنها بعرضها لهذا المسلسل قدمت رواية عن (الإرهاب) بعيون عربية. ويحق لهذه القناة ان تتحدث عن قضية عالمية بعيونها هي، ولكننا ندرك ان هذه الرؤية ليست عالمية أو إقليمية، وان لم تكن محليّة جدا.

Monday, November 07, 2005

الطائفية سبب للحب والحرب

من نعم الخالق عز وجل ان خلق الناس مختلفين، ولم يجعلهم على شاكلة واحدة. فجعل من بعضهم ابيضا والاخر اسود، وجعل بعضهم طويل القامة والاخر قصير، وجعل بينهم قوي الجسد والاخر ضعيفه. وجعل بعضهم ذكيا ألمعيا وغيره بالكاد يفهم الاشارة.. ورغم ان من لم ينله القسط الاوفر من جمال الجسم، او حدة الذهن، ربما يكون ساخطا على خلقه، ناقما على عيشه، نادبا سوء حظه، عاتبا على ابيه لاتيانه به الى هذه الحياة الظالمة. لكن من بين حسان الجسوم من ضعُف وانتابته الامراض، ومن بين المفكرين العظماء من ذهب عقله فلم يعد يعي شيئا. ولو تأمل الانسان لوجد في الاختلاف رحمة به، فقد اقتضى هذا الاختلاف شعور الانسان بعدم الكمال وبالتالي اخذ يبحث عن التكامل مع الاخرين، وذلك هو اساس تطور البشرية، ونموها وسيطرتها على الكوكب الارضي.
على ان الاختلاف شيمة بشرية خالصة اكثر تعميما من الشكل، وما قدّر الله لكل فرد ان يكون عليه. فالبشر يختلفون في اللغات والاديان والمذاهب والعادات والتقاليد وغير ذلك اختلافا كبيرا. ولا تكاد تجد ميدانا يتفق عليه الجميع، بل هم يتفرقون الى فرق شتى وينتسبون الى اطياف متناثرة. وهم ينقسمون كل جيل تقريبا حول نفس القضايا التي انقسم عليها اباؤهم واجدادهم. ومع ذلك يحتفظ المجتمع بنوع من الوحدة، تحت رابط اوثق من الرغبة الشخصية. فالانسان تدفعه غرائز عدة وتحركه نوازع مختلفة. وكما ان الرغبة في التجمع غريزة متأصلة، فكذلك الشعور بالذات، والنزوع الى التفوق هي سمات بشرية محضة.
ولعل سبب الانقسام يأتي اصلا من تصارع نوعين من الانتماء داخل الفرد يدفعه الى ايجاد انتماء مشترك، فالقومية قد تكون اقوى من الانتماء الديني في احد المجتمعات بينما يكون العِرق اقوى من كليهما في مجتمعات اخرى. وحين يتفوق الشعور القومي ينتج مجتمعات علمانية تقدس الفردية ضمن الهيكل الاجتماعي. بينما تكون صفة المجتمعات المؤسسة على قاعدة الدين الايثار والرغبة في التضحية. وحين يشعر بعض الافراد ضمن احد هذين بضرورة مراعاة الصفات الاخرى، ينشأ نوع من التوفيق يميز توجهات هؤلاء الافراد، ويؤسس لطائفة جديدة تتبنى صيغا اجتماعية مقتبسة عن كل منهما.
وعلى هذا، فان الطائفية هي احد مظاهر التطور الذي يمر به البشر، في محاولة تصحيح مسار التاريخ، وفي رفض المسلمات المتوارثة. ولو قدر للبشر ان يكونوا على شاكلة واحدة، لتوقف مجرى التاريخ، ولاصبح التعايش بين الافراد مملا الى حد الجنون. والطائفية بعد ذلك نتاج الفكر البشري عبر عصور طويلة من السعي المضني وراء الحقيقة. فهي نتيجة حتمية لرقي الانسان التواق الى اختراق المجهول، والخوض في الغمار الصعبة، متحديا ذاته لاثباتها او فهمها.
لكن الطائفية على مستوى الفكر لا تسود. وما تسود، كما اثبتت وقائع التاريخ، رغبة اخرى في نفس الانسان، تلك هي فرض الذات، مهما تكن الطرق والوسائل المتبعة، وان كانت بالحروب والتقتيل والتهجير والاستعباد. وهنا مكمن الخطر على الجنس البشري. اذ ان الرغبة في تسييد الطائفة، التي يستعملها عادة قادة طموحون الى السلطة المطلقة، قد تدفع الافراد الى التصرف بشكل لا عقلاني وتوقعهم تحت تأثير المد الجمعي، ثم تغير نوازعهم ومُثلهم وتجعل منهم اشرارا لا يرجى لهم صلاحا.
لكن الشر ليس اصل في الانسان. والمجتمعات البشرية اوجدت سبلا للقضاء على التطرف الشرير، وهي جميعا تستظل بمظلة بالقانون، وتؤمن بضرورته. كما اوجدت المجتمعات الانسانية معايير لتقديس الخير وتحفيزه في النفس، وتجعله الغاية القصوى للاشياء. وفي كل تجمع بشري هناك خطوط عريضة يتفق عليها الجميع. ولكنهم ينقسمون تحت هذه المسلمات الى مجتمعات اصغر وتلك تنقسم لاحقا الى ما هو اصغر وهكذا. واذا كان الخير والشر هما عنصرا الحياة الدافعان، فان اولهما يمثل رغبة المجتمع الاكبر في الحق والمساواة والمصالح المشتركة، ويمثل الثاني رغبة المجتمع الاصغر في الاستئثار، والمكاسب الضيقة. وهما يتصارعان على الدوام على مستوى الفرد الواحد، وعلى مستوى المجتعات الصغرى صعودا.
غير ان البشرية مع ذلك اوجدت سبلا للتعايش المشترك رغم وجود الخلافات، يقوم على اسس تحترم الطوائف والمذاهب والاعراق ولا تقلل من شأن ايا منها، وتتيح لكل منها ان ينتهج نهجه الخاص طالما كان خاضعا للقانون. وخوفا من جور القانون الذي يسنه البعض، ولدت فكرة الاشتراك في سن القانون من قبل الجميع. وخوفا من جور القائمين على تنفيذ القانون ظهرت اليات المشاركة في الحكم. وخوفا من استئثار الحكام بالسلطة وابتعادهم عن المحكومين، مهما تكن انتماءاتهم، اقر مبدأ المناوبة على السلطة. ولعمري هذه هي المفردات التي تحدد مفهوم الديمقراطية الحديثة.
ان الطائفية التي تريد تسييد افكارها انما هي امر مقيت تجدر محاربته. لكن الطائفية لا تُجتث، بل تُروض. واذا اتيحت الفرصة للكل في المشاركة، فلن يكون هناك دافع حقيقي للنزاع. واذا كانت هذه المشاركة فعالة، فستكون العامل الاساس في تطور المجتمع ورقيه. وقد ادرك الانسان منذ وقت طويل ان السلم قد يكون هشا، ولكن الحروب لا تحل المشاكل. وبرغم الحرب الضروس، تبقى امنية المقاتل في مصافحة عدوه ومعانقته اكثر من قتله، او الموت على يديه. ولم يكن هناك عدو دائم في لغة التاريخ. ولو قدر لمن ماتوا في الحروب ان يعودوا، لتعجبوا من غبائهم، باهدارهم الفرص الكثيرة في السلم عن طريق التسامح، بدلا من فقدان الارواح والاموال بتعصبهم الاعمى وغير المبرر.
واذا اردت ان تعدّ انجازات الانسان على مدى تاريخه المدون، فلن تجد اعظم من ايمان الاغلية الساحقة من البشر بضرورة التسامح مع الاخرين، رغم اختلافهم في كل شيء اخر تقريبا. ذلك ان الاختلاف لا يكون صحيا الا في جو من التسامح وقبول الاخر. وما دامت الحقيقة النهائية للاشياء لا يمكن ادراكها لقصور العقل البشري، كما يحلو للفلاسفة ان يصفوه، فكل حقيقة ظاهرية ممكنة. وكل ما يؤمن به الاخرون ممكن، ولكن هناك ترجيح فقط لما نؤمن به نحن. ومن هنا يمكن ان نحب الاخرين لاختلافهم عنا بقدر ما نستطيع ان نتسامح معهم. ولا شك ان المؤمنين بالمباديء السامية للدين الاسلامي يقرون انه سمح بما فيه الكفاية لقبول الاخر. اذن فليكن الاختلاف سببا للحب لا للحرب، لاننا متحضرين، ولاننا مؤمنين، ولاننا خليفة الله على الارض.