Monday, October 10, 2005

ثلثا ثلاث محافظات وعدالة التصويت

لاشك ان النقاش حول آلية التصويت على مشروع الدستور الدائم، وكيفية الموافقة عليه او رفضه، قد اتخذ مسارا غير متوقع بالمرة، اذا اخذنا بنظر الاعتبار وضوح النص الذي يحدد تلك الالية في قانون ادارة الدولة المؤقت، المادة الحادية والستون، الفقرة (ج): "يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر." فقد اتخذت الجمعية الوطنية على عاتقها تفسير هذه الفقرة، وفعلت ذلك بشكل مثير للجدل. وتطور النقاش ليصل الى المواطن العادي، الذي بدأ يتساءل كيف يمكن لعدة اشخاص منفردين ان يقفوا بوجه رغبة الملايين، فيعيقوا الموافقة على الدستور، بل ويسقطوه ومعه الحكومة والبرلمان، ويعيدوا العملية السياسية الى بدايتها؟ والواقع ان هذا مجرد افتراض لا اساس له، مبني على نظرية حسابية متطرفة.
ولنبدأ من خوض الجمعية مسؤولية تفسير قانون ادارة الدولة. ذلك ان تفسير القوانين، والقانون الاساس، والدستور خصوصا يقع على عاتق جهة متخصصة تسمى (المحكمة الاتحادية العليا)، كما ورد في المادة 44 (ج): "اذا قررت المحكمة العليا الاتحادية ان قانونا او نظاما او تعليمات او اجراء جرى الطعن فيه انه غير متفق مع هذا القانون فيعتبر ملغيا." وهذه المحكمة كان يجب انشاؤها مع تشكيل الحكومة كما تنص المادة 39 (ج): "يقوم مجلس الرئاسة، كما هو مفصل في الباب السادس، بتعيين رئيس واعضاء المحكمة العليا، بناء على توصية من مجلس القضاء الاعلى." ولكن اهمل ذلك بالطبع نظرا للظروف التوافقية التي اوصلت القيادة الحالية الى سدة الحكم. ويبدو ان لا احد يريد ان تكون هناك سلطة لمراقبة دستورية القوانين، فبعض تلك القوانين ليست فقط غير شرعية، وانما هي ايضا لفائدة حصرية بمن يصدرها. على ان الجمعية الوطنية اضطلعت بمهمة الخصم والحكم، وقررت تفسير الفقرة المشار اليها. وفعلت ذلك بطريقة غريبة، رغم وجود العديد من الخبراء القانونيين، والفقهاء، واللغويين، واصحاب العلم والفهم. فقد اباحت تفسير الكلمة ذاتها بطريقتين رغم ورودهما في نص واحد ومورد واحد. فقد اصدرت قرارها باعتبار معنى مصطلح (اكثرية الناخبين) بانهم المصوتين، بينما استنتجت ان مصطلح (ثلثا الناخبين) يدل على المسجلين. وفي رأيي فان هذا القرار، مهما حسنت نيته، هو من اسوأ قرارات الجمعية الوطنية (المنتخبة)، وسيسجل كنقطة سوداء في تاريخها، وهي التي قدمت الشهيد تلو الاخر في خدمة العملية السياسية والديمقراطية، والتي يتحمل اعضاؤها وزرا كبيرا، وضغطا هائلا. ولعلي اتلمس العذر لهؤلاء الذين صوتوا لصالح هذا القرار العجيب بانهم انما ارادوا ان يضمنوا عدم سقوط مسودة الدستور في الاستفتاء القادم، ودفع العملية السياسية والديمقراطية خطوة للامام. ولكن هذا العذر لا يعدو ان يكون تجسيدا آخر لمقولة (الغاية تبرر الوسيلة) المرفوضة قطعا وشرعا. فحتى الارهابيين يبررون افعالهم الشنيعة بانهم يسعون لغرض نبيل هو تحرير العراق. وقد يكون القانون مجحفا، لكن على القاضي ان يحكم به، وان شاء الاحتجاج فعليه ان يدفع الغرامة من جيبه!!
وهكذا جاء تدخل الامم المتحدة في الوقت المناسب ليضع الامور في نصابها الصحيح. فقد اعلنت الامم المتحدة ان تفسير الجمعية الوطنية لقانون الانتخابات لا يتماشى مع المعايير الدولية، وهو ما ارغم الجمعية على العودة عن قرارها، وتفسير كلمة الناخبين على انها (المصوتين) في كلا مورديها، وكما هو واضح اصلا. فلا يعقل او يتصور ان يكون هناك ناخب ما يحسب له حسابا ويعد له صوتا، سلبا او ايجابا، ما لم يكن ذلك الناخب مشاركا فعليا في عملية التصويت. ولم نسمع في انتخابات او استفتاءات جرت في اي مكان في العالم، ونسبت نتائجها الى مجمل السكان المؤهلين للتصويت، او من سجل اسمه في سجل الناخبين. فنتائج الانتخابات يجب ان تكون منسوبة الى المشاركين فيها، ولا يمكن ان يعطى صوت لمن لم يشارك فيها. ولولا تدخل الامم المتحدة لما تراجعت الجمعية عن قرارها المؤسف مهما كانت النتائج. وفي حال استمر العمل بذلك القرار، فقد كان ذلك كفيلا بان يقاطع الناخبون من العرب السنة الاستفتاء، بعد ان حرموا من آخر فرصة لقول رأيهم. ولو حصلت الموافقة على الدستور حسب هذا السيناريو، لكان ذلك بمثابة اعلان لتقسيم البلاد، وربما لحرب اهلية. ويبدو ان ما يجعل الجمعية قلقة بشأن سقوط مشروع الدستور في الاستفتاء هو حق النقض الممنوح الى ثلاثة محافظات، والذي يتيح لثلثي اي عدد من المشاركين في الاستفتاء ان يقفوا بوجه الدستور ويمنعوا الموافقة عليه. وقد افترض البعض انه اذا اشترك ثلاثة افراد في ثلاثة محافظات فقط في هذا الاستفتاء، وصوت اثنين منهم في كل محافظة بـ(لا)، فستتحقق نسبة الثلثين الكافية لاسقاط الدستور. اي ان ستة افراد فقط يمكن ان يرفضوا الدستور وتكون ارادتهم مقابل ارادة (الملايين) في المحافظات الاخرى. وهذا افتراض لحالة متطرفة يصعب تصورها. وبالمقابل، يمكن تصور حالة متطرفة اخرى، وهي ان يشترك اثنان فقط من كل محافظة ليقولوا (نعم) مقابل (الملايين) من المحافظات الثلاثة التي ربما صوتت بـ(لا) بنسبة (65%) وهي غير كافية لاسقاط الدستور. وبالتالي ستكون رغبة عشرون او ثلاثون فردا مقابل رغبة الملايين! ومن الجدير بالذكر، ان افتراض الحالات المتطرفة وارد في كل الحالات المماثلة. فتعديل الدستور الامريكي مثلا يتطلب موافقة ثلاثة ارباع الولايات على التعديل في استفتاء عام. وهذا يعني ان اتفاق ثلاثة عشرة ولاية (ربع الولايات) على رفضه (بالاغلبية البسيطة) سيعطل هذا التعديل. فاذا اشترك شخصان فقط من تلك الولايات وصوتا بالرفض، فستكون ارادة بضعة اشخاص مقابل (الملايين) من الموافقين!
وبالعودة الى حالتنا، فان الاكثر احتمالا هو اشتراك بضعة الاف من كل من المحافظات (المضطربة)، ويصوتوا بـ(لا) للدستور، وبالتالي يمكن ان يوقفوا مشروع الدستور حتى ولو صوت باقي العراق باجمعه بالموافقة. ولكن السؤال هنا، لماذا يشترك بضعة الاف فقط من تلك المحافظات، بينما يشترك الملايين من المحافظات الاخرى؟ هل لانهم غير راغبين، ام لانهم غير قادرين؟ نحن نعلم انهم راغبين بدلالة ارسالهم ممثلين الى لجنة صياغة الدستور. وهم لم يقاطعوا الانتخابات السابقة لانهم لا يؤمنون بالانتخابات، بل لانهم لم يكونوا قادرين على المشاركة فيها، وبعد ان صُمّتْ الآذان عن طلبهم بتأجيلها لحين تسوية الامور الأمنية في محافظاتهم.
اذن فان معظم ابناء المحافظات التي تشهد اختراقات امنية لن يتمكنوا من المشاركة في الاستفتاء، بسبب سيطرة الارهابيين والمسلحين عليها، وضعف سيطرة الدولة، بل وغيابها عن تلك الاماكن. وبدلا من محاولة منع حتى هؤلاء القلة من التعبير عن رأيهم، كان الاجدى ان يصار الى العمل الجدي لاحلال الامن في تلك المناطق. واذا لم يكن ذلك ممكنا في الوقت الراهن، فيمكن ان تؤخر العملية السياسية لحين الوصول الى تلك الحالة. لقد ادعى من رفض تأجيل الانتخابات السابقة، حسب طلب ممثلي تلك المحافظات، ان التقدم بالعملية السياسية هو ما سيؤدي الى احلال الامن.. الامر الذي لم يتحقق البتة. بل على العكس، زادت الاوضاع سوءا في مناطق كثيرة من العراق، وخصوصا في المحافظات الغربية. ولم تفلح العمليات التي قامت بها القوات المتعددة الجنسيات مع الجيش العراق، من اجل تطويق الارهاب، في تحقيق تقدم نوعي. وجزء من هذا الفشل يعود الى الاصرار على اجراء الانتخابات، وما ادى اليه ذلك من مقاطعة، ومن فترة انتقالية لتغيير الحكومة، ومن تشكيل حكومة بدأت من الصفر، رافضة ما حققته الحكومة السابقة.
وهكذا، فان نوعا من العدالة يتم تحقيقه الان. ربما لن يستطيع الكثير من اهالي المنطقة الغربية في العراق من المشاركة في الاستفتاء، كما لم يستطيعوا ان يشاركوا في الانتخابات، وكما أهْمِل دورهم في اللجنة الدستورية. ولكن دورهم في رسم مستقبل البلاد سوف يكون رائدا، وسيتحملون مسؤولية كاملة عما سيجري لاحقا. فاذا اقرت مسودة الدستور، فهم اذا يوافقون عليه، طالما انهم لم يستعملوا حق النقض الممنوح لهم. واذا رفضت تلك المسودة، فان ذلك يكون تتويجا لتاريخ من الرفض من الجهة المقابلة.

Thursday, October 06, 2005

الحدس.. موهبة الصحفي ومسؤوليته

لعل آخر ما يتوقعه أي صحفي هو ان يحوز عمله على الرضا التام من قبل الأطراف التي يتناولها في بحثه وتحليله، في سعيه الدائم إلى إظهار الحقيقة. بل انه في الواقع مشغول بتوقع من سيثيره أو يستفزه هذا العمل، وطبيعة رد الفعل الناتجة، أكثر من تفكيره في الإطراء أو الثناء على ما يسعى لتقديمه. وفي كثير من الأحيان يكون هذا الصحفي (أو الصحفية) غير قادر أصلا على التعرف على العواقب نظرا لتشعب الحالة السياسية وتضاربها في بلد يُعد حديث العهد بالديمقراطية والحرية. وبالتالي فان حساباته قد لا تكون فقط في تجنب نقد جهة ما بسبب احتمالية الرد العنيف أو المدمر أحيانا، بل في تجنب نقد الكل، واستعمال الجمل المفتوحة، والإشارة إلى الأحداث بطريقة تقبل التأويل على أكثر من وجه.
ومما يدعو للعجب ان الصحفيين لا يجدون مشقة في نقد أداء الدولة، ولا يتوقعون التعرض للأذى والمساءلة نتيجة لذلك، ولكنهم نادرا ما يتعرضون لنقد الأحزاب السياسية والكتل والجماعات التي تشكل هذه الدولة. وهم يتناولون الخبر أحيانا بحيث يرضي القاريء العادي وغير المطلع في المقام الاول، ويغضون النظر عن ذكر بعض الحقائق التي قد تصدمه. كما يروج بعضهم بطريقة ببغائية لبعض الأفكار والطروحات باعتبارها تأكيدا للنتائج التي يشير إليها فحوى الخبر دون ان يكون لذلك أساس.
ان مهنة الصحافة، خلافا للمهن الأخرى، تتطلب مستوى وعي عالٍ بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي علاوة على معرفة دقيقة بالتغييرات التاريخية، في المدى القريب على الأقل، وكذلك معرفة تفصيلية بمسيرة الأحداث خلال المرحلة الراهنة. والصحفي الجيد يراد له، علاوة على امتلاكه حسا استباقيا للحدث، ان يقوم بأكثر من دور في وقت واحد. فهو يجب ان يكون ناقلا أمينا للخبر الآني، كما ان عليه ان يضعه في السياق التاريخي، وسلسلة المسببات والنتائج، إن أمكن، لمساعد المتلقي على الفهم. وقد لا يكون مطلوبا من الصحفي أن يقدم تحليلا دقيقا وشاملا لمفاد الخبر، ولكنه يجب ان يهيئ الأرضية له على الأقل.
في الصحافة الغربية، وبدرجة اقل في مثيلاتها العربية، يجب ان يجيب مضمون الخبر الصحفي عن ستة أسئلة هي: ماذا، ومن، وكيف، ومتى، وأين، ولماذا. وبهذه الإجابات يستطيع المتلقي فهم الخبر بطريقة واضحة تزيل الغموض عنه. وهي كذلك تنقل الخبر من مجرد إشاعة تتردد على السن البسطاء إلى مادة صحفية تأخذ حيزا في المناقشة العلمية، وتسجل موقفا للتاريخ. على سبيل المثال إذا أراد الصحفي ان يغطي مؤتمرا يناقش قضية ما، فستكون الإجابات المطلوبة كالآتي:
ماذا: مؤتمر عن دور منظمات المجتمع المدني في الدستور.
من: نظم من قبل منظمة كذا.
كيف: ثلاثة عروض تقديمية، لأستاذ جامعة ورئيس منظمة مجتمع مدني وعضو مجلس محلي، الحضور من الناشطين وأعضاء منظمات المجتمع المدني ومن المهتمين بالعملية الديمقراطية. (هل جرت مناقشات جانبية؟ ما هي، وما هو تعليق المحاضرين، وما هو الجو العام؟)
متى وأين: في التاريخ الفلاني في الساعة الفلانية على القاعة الفلانية
لماذا: يذكر ان منظمة كذا سبق وان أقامت العديد من المؤتمرات حول دور منظمات المجتمع المدني في العملية الديمقراطية. ويأتي انعقاد هذا المؤتمر في ظل المطاحنات السياسية الراهنة حول إقرار الدستور، ويلاحظ إهمال أو إغفال دور منظمات المجتمع المدني في هذه العملية المصيرية على الرغم من انها الوحيدة القادرة على التكلم بلغة المواطن العادي كونها غير تابعة إلى أحزاب سياسية...
على ان هناك أشياء أخرى تكميلية، وهي تتأتى بالإجابة عن الأسئلة التي تطرح ضمنا، مثل: وماذا سيحصل بعد ذلك؟ وما الفائدة؟...الخ. وبالطبع قد لا يستطيع الصحفي الإجابة على هذه الأسئلة، ولكنه يستطيع الإشارة إليها، كما في مثالنا أعلاه، كطروحات للمناقشين، واستشراف إجاباتهم عنها. وإذا ما تعذر على الصحفي ان يحصل على معلومة ما، فعليه ان يذكر ذلك للقاريء بأمانة. فان لم يستطع ان يعلم من نظم المؤتمر على وجه التحديد، كأن تعمد الجهة المنظمة إلى إخفاء نفسها، فعليه ان يورد جملة مثل: "ولم يتسن لنا معرفة الجهة التي رعت هذا المؤتمر، رغم ان الشعارات المرفوعة تشير إلى منظمة كذا...". ولكنه قد يكون له حدس في ذلك بناء على شواهد معينة، فيمكن له أن يستعمل مثل عبارة: "ومن المعلوم أن هذه المنظمة تميل إلى التيار الفلاني، وهي سبق وان نظمت مثل هذه المؤتمرات في نفس المكان وباستدعاء نفس المحاضرين...".
وقد يحتج البعض على استعمال (التخمين) في إيراد الخبر. ونحن لا ندعو إلى ذلك على سبيل الإطلاق. بيد ان الصحفي الجيد، والمتتبع لمسيرة الأحداث، والذي يمتلك خبرة وافية في العمل الصحفي، يحتاج إلى توفير دلالات وإشارات تساعد المتلقي في فهم الخبر واستيعابه، ولكنه يجب ان يوضح ان هذه الدلالات والإشارات صادرة عنه، وهي ليست حقائق. ويجب التشديد على ان استعمال الحدس هو آخر الأمور التي يتم اللجوء إليها، وهو إنما يورد لتوضيح نقص في معلومات الخبر ويترك القاريء حرية إملاؤها بما يوافق أو يخالف حدس الصحفي، الذي لابد له ان يتمتع بموهبة الحدس قبل ان يستحق هذه التسمية.
على أننا نجد في المقابل مجموعة غير قليلة من الصحفيين باتت تستعمل الحدس كمرجعية أولى وتفرض استنتاجاتها بدون التصريح بذلك، وتفترض ان الأمور تسير حسب تخمين الصحفي نفسه أكثر من الحقائق الموضوعية التي صنعت الخبر ذاته. وهؤلاء هم في العادة من المرتبطين حزبيا أو الذين يشعرون بالولاء لجهة أو طائفة أو كتلة ما. وهم يفترضون ان عليهم، طالما كانوا ناقلين للأخبار، ان يضعوها في قالب يتضمن رأيهم، أو رأي من يقدم لهم الدعم، بحيث يصاغ الخبر موافقا لتوجهات تلك الجهات.
ان طريقة الأخبار الموجهة لاقت رواجا، على المدى القريب، في الصحافة العراقية. وذلك ليس اعتمادا على حسن أداء هذه الصحافة، وإنما لكون المتلقي غير مؤهل بما فيه الكفاية للحكم على طبيعة المادة التي توفرها تلك الصحافة. ومن طبيعة الإنسان انه يميل إلى تصديق ما يوافق توجهاته، ويسارع إلى تكذيب ما يخالفها. ولكن الحقيقة البسيطة ان البشر ليسوا كاملين، وأنهم يرتكبون أخطاء. ولذلك يجب على الصحفي الملتزم بعد ان يجيب على الأسئلة المذكورة أنفا، إن أراد أن يحلل الخبر ضمن قناعاته، أن يذكر بشكل أمين طبيعة تلك القناعات كأن يستخدم صيغة الغائب في طرح تلك الأفكار معززة بملاحظات عن أرضية حامليها، فيقول: "يشار ان بعض المنتقدين، من ذوي الأفكار الليبرالية، رفضوا إطلاق الوصف الفلاني على منظمة كذا...".
ولتدليل على مثل هذه الأخبار الموجهة، سأورد مثالا من احد المواقع الالكترونية العراقية. حيث نشر هذا الموقع خبرا مفاده ان مظاهرة كبيرة خرجت في مدينة عراقية، مقابل مبنى المحافظة، تطالب بإقالة المحافظ نظرا لسوء الخدمات، وان المتظاهرين اصدموا مع قوات الشرطة، وحدث إطلاق نار بين الجانبين قبل ان تتفرق المظاهرة. وبعد التدقيق في الخبر، وجدنا ان آخر مظاهرة حدثت في تلك المدنية كانت قبل اسبوعين أو ثلاثة من تاريخ نشر هذا الخبر. وهي لم تكن كبيرة إذا شارك فيها بضع عشرات فقط، وأنها لم تكن احتجاجا على سوء الخدمات وإنما احتجاجا على حل فوج المغاوير الذي لم تعترف به وزارة الداخلية. ولم يطالب المتظاهرون بإقالة المحافظة، بل باعادتهم إلى الخدمة. ولم يحدث تصادم، ولكن أطلقت بعض العيارات في الهواء تحذيرا لأحد المندسين الذي لوح ببندقيته. وما دفعني إلى التأكد من صحة الخبر، هو افتقاره إلى الإجابات عن (من ومتى)، لأجد ان الخبر أجاب بصورة خاطئة عن (ماذا وكيف ولماذا). وكانت إجابة (أين) فقط هي الصحيحة: مقابل مبنى المحافظة. ويبدو ان الموقع الالكتروني بخبره هذا إنما أراد حدوث مظاهرة أمام مبنى المحافظة ليبني عليها خبره كما يحلو له.
وإذا كان حبل الكذب قصيرا، فهو في الصحافة، للأسف، أطول قليلا. ونظرا لان البلد لم يصل بعد إلى مرحلة تسويق الخبر كسلعة، وبالتالي يترك للعرض والطلب تحديد الغث من السمين، فان مسؤولية الصحفي عن هذه المرحلة لا تقل عن مسؤولية السياسي، ذلك انه بإهماله الحقيقة، أو تحويره لها، إنما يشوش على الرأي العام ويؤخر التطور الحتمي للديمقراطية. ونحن نعلم ان السياسيين يتمسكون بالديمقراطية حينما يكونون خارج السلطة، ولكنهم يمنحوها اقل اعتبار حينما يصبحون فيها. فالديمقراطية ليست فقط انتخابات، وإنما مجموعة من الآليات التي تضمن التزام الكل بها. ومن هذا الكل، جزء مهم يستطيع ان يساعد على إنجاز البناء بسرعة، كما يمكن له عرقلته، ذلك هو الصحفي.