Thursday, September 22, 2005

آلية تعديل الدستور وجدلية الارنب والغزال

يقول المثل العراقي الدارج: "تريد ارنب خذ ارنب، تريد غزال خذ ارنب". ولعل الدستور المقترح من قبل الجمعية الوطنية بالصيغة التي تم الاعلان عنها عبر وسائل الاعلام، هو احد مصاديق هذا المثل الشعبي. فرغم ان هذه الوثيقة احتوت على مواد متميزة تضمن حقوق الانسان وتؤسس لديمقراطية حرة في منطقة قلما تمتعت بها، الا ان هناك نصوصا واحكاما ربما فرضتها طبيعة المرحلة الراهنة، والمداولات السياسية بين الاطراف المتجاذبة، وحتى الضغوطات الخارجية، سواء من الولايات المتحدة او حلفائها، او من قبل الامم المتحدة التي يفترض ان تكون راعية العملية الديمقراطية برمتها.
وليس من المتوقع ان تخرج نصوص الدستور كاملة لا يشوبها نقص، حتى لو تسنى للجنة الدستورية الوقت الكافي. ذلك ان عمل الانسان قلما يقترب من الكمال، وهو الكائن الضعيف الذي يشعر بعجزه في كل حين. فما بالك وقد كتب الدستور في فترة قياسية لم تتعد اشهر قليلة، شابتها الكثير من المجادلات والمهاترات السياسية، وغاب عنها دور التكنوقراط الذين كان يمكن ان يشذبوا بعضا من الاسفاف الوارد في النصوص، كما يمكن ان يقترحوا اساليبا براغماتية للتعامل مع القضايا الخلافية. على كل حال اصبح لدينا (دستور)، واصبحت الكرة في ملعبنا. فالحكم النهائي هو التصويت الشعبي على قبول تلك الويقة او رفضها. ويجد المثقفون انفسهم في حرج لم يكونوا يتوقعوا ان يوضعوا فيه. فهم في الوقت الذي ينتقدون نصوصا وموادا في الدستور المقترح، فانهم لا يدعون الى رفضه ككل. وليس هناك آلية للتعديل ضمن السقف الزمني المتاح لحين الاستفتاء العام في 15 تشرين اول المقبل. انهم يشعرون ان اقرار الدستور هو امر ضروري لدفع العملية السياسية في العراق، ويدركون ان رفض الدستور قد يعني ادخال العراق في دوامة الفوضى السياسية، وربما يمهد لحرب اهلية –لاسمح الله-. وهكذا فهم يقبلون باحلى الامرّين، ويأملون ان يصار الى تعديل المواد التي تقض مضجعهم مستقبلا.
وقد فطن كاتبوا هذا الدستور الى هذا الامر، فجعلوا من عملية التعديل امرا غاية في الصعوبة، حسبما تشير الى ذلك المادة 136، التي تتعامل مع كيفية تعديل الدستور:
"اولا: لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين او لخمس اعضاء مجلس النواب، اقتراح تعديل الدستور.
ثانيا: لايجوز تعديل المبادئ الاساسية الواردة في الباب الاول من الدستور، الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.
ثالثا: لايجوز تعديل المواد الاخرى غير المنصوص عليها في البند ثانيا من هذه المادة الا بعد موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.
رابعا: لايجوز اجراء اي تعديل على مواد الدستور بما ينتقص من صلاحيات الاقاليم التي لاتكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية الا بموافقة السلطة التشريعية في الاقليم المعني وموافقة اغلبية سكانه باستفتاء عام.
خامسا: يعد التعديل نافذا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية."
فتعديل الدستور يبدأ اما بجميع اعضاء السلطة التنفيذية او بنسبة عشرين في المئة من مجلس النواب. وهذا يعني ان الاقليات التي تشكل اقل من هذه النسبة لن يتسنى لها ابدا ان تقترح تعديلا للدستور الا اذا عقدت تحالفا سياسيا مع جهة ثانية، وبالتالي فانها ستلجأ الى تقديم تنازلات او الموافقة على شروط مجحفة مقابل اقتراح تعديل الدستور. واذا كان لابد ان يوافق مجلس النواب على التعديل باغلبية الثلثين، فلماذا لا يكون هذا التعديل مقترحا بسيطا يمرر كأي مقترح اخر داخل المجلس؟
لكن هذا الامر يهون الى جانب ما تضمنته الفقرة (ثانيا) من المادة 136، والتي تفرق بين ابواب الدستور من ناحية التعديل، فتفرض شروطا اضافية للباب الاول، تكاد تكون تعجيزية. والواقع ان هذه الفقرة كتبت بصيغة مبهمة وغير واضحة. فما المقصود من: "الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين"، هل هو السقف الزمني لاقتراح التعديل، أي لايمكن تعديل الباب الاول الا بعد ثماني سنوات من اقرار هذا الدستور؟ ام ان المقصود موافقة مجلسي النواب في كلا دورتيه المتعاقبتين، فيجري طرح التعديل في المجلس النيابي القادم وتحصل الموافقة عليه، ثم يعاد طرحه في المجلس الذي يليه لتحصل الموافقة عليه ثم يطرح للاستفتاء العام؟ غير ان النص لا يشير الى صيغة التثنية في: " وبناء على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه"، اذ لم يقل (مجلسي النواب) او (مجلس النواب في كل منهما)، مما يحملنا على الاعتقاد ان المقصود هو منع التغيير في الباب الاول للدستور لمدة ثماني سنوات على الاقل.
والباب الاول يتكون من ثلاثة عشرة مادة، حددت الاولى منها شكل نظام الحكم بجمهوري النيابي الاتحادي (الفدرالي)، والثانية علاقة التشريع بالدين الاسلامي ومباديء الديمقراطية وحقوق الانسان. والمادتين الثالثة والرابعة اشارتا الى طبيعة القوميات العرقية والطوائف في العراق، والمساواة بين اللغتين العربية والكردية رسميا، فيما تحدثت المادتين الخامسة والسادسة عن سيادة القانون وتداول السلطة سليما. اما المادة السابعة فقد جمعت بين تحريم الفكر التكفيري والعنصري ومحاربة الارهاب، معتبرة ان حزب البعث هو احد هذه المؤسسات التي تحرض وتروج للارهاب. ولكنها اوجبت على الدولة ان تعمل على منع ان تكون اراضي العراق مقرا للنشاطات الارهابية، خصوصا مع ما تلزم به المادة التالية (الثامنة) الدولة العراقية من حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والالتزام بالمعاهدات الدولية. اما المادة التاسعة فقد اناطت الاشراف على القوات المسلحة واجهزة الامن والمخابرات بالسلطات المدنية، وتمثيل مكونات الشعب العراقي بشكل (متوازن) ضمن هذه الاجهزة، كما حظرت تشيكل مليشيات مسلحة خارج اطار القوات المسلحة، والزمت العراق بالاتفاقيات الدولية لحظر انتشار اسلحة الدمار الشامل. المادة العاشرة تحدثت عن العتبات المقدسة ككيانات دينية وحضارية يجب على الدولة ان تصونها، وان تضمن حرية ممارسة الشعائر فيها. المادة 11 حددت بغداد عاصمة للعراق والمادتين 12 و13 تحدثتا عن علم العراق وشعاره ونشيده الوطني، والعطل الرسمية والدينية وكون هذا الدستور هو القانون الاسمى الذي لا يجوز ان تصدر القوانين، سواء اتحادية او محلية الا متوافقة معه.
من هذا الاستعراض السريع لتلك لمواد الباب الاول، نجد ان معظم القضايا الخلافية قد وردت فيه، وهي الفدرالية، وعلاقة الدين بالدولة، وعلاقة العراق بالامة العربية، ودور حزب البعث، كما ثبتت المحاصصة الطائفية في الاجهزة الامنية. وهي امور لابد ان لجنة كتابة الدستور ارادت ان تتأكد من عدم تغييرها لفترة طويلة نسبيا من الزمن حتى يتاح لها ان ترسخ في التطبيق العملي ويصبح من غير الواقعي تعديلها او الغاؤها. وهذا امر غريب، فكيف يتم تثبيت امور لم يتم التفاوض بشأنها اكثر من بضعة اشهر؟ مع الاخذ بنظر الاعتبار ان تلك المفاوضات لم تكن متوازنة طالما كان احد اطرافها مغيبا او متغيبا عن التمثيل البرلماني. واذ لم تحصل الصيغة التوافقية التي ينبغي ان يمرر بها الدستور، فلا يجوز ان توضع عراقيل خاصة في وجه تعديله، سيما اذا كانت هذه العراقيل مخصصة بالقضايا الخلافية.
لكن التعديل في الابواب الاخرى ليس سهلا باي حال. فهو يقتضي موافقة ثلثي مجلس النواب، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية. ولست ادري ما الذي يخشاه واضعوا الدستور من التعديل ليجعلوه بهذه الصعوبة، اذ من المعروف انه قد يكون من العسير الحصول على اغلبية الثلثين في اي حال. وكان يمكن ان يكتفى بالاغلبية البسيطة، طالما ان القرار في النهاية هو قرار الشعب عبر الاستفتاء. والواقع ان صيغة الاستفتاء هي عودة بالديمقراطية الى الاصول، حيث انه من الناحية النظرية يمكن ان يمارس الشعب حقه بشكل مباشر في كل القضايا الحساسة والمصيرية من خلال التصويت على قبول او رفض قانون او تشريع ما. ولكن هذه الممارسة بطيئة ومكلفة جدا، لذلك يصار الى التمثيل البرلماني للشعب. على ان التحول الى البرلمان لا يعني ان له ميزة على الشعب، فيبقى قرار الشعب هو الحكم النهائي. على ان واضعو هذه الفقرة ذهبوا اكثر من ذلك، فرهنوا موافقة الشعب، ومن قبلها اغلبية ثلثي مجلس النواب، بمصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام. فماذا الذي يحدث ان رفض الرئيس التعديل؟ هل يكون فردا مقابل الشعب وبرلمانه؟ فاذا احتج بان هذه المصادقة بروتوكولية، وان الرئيس لا يملك صلاحية الرفض، قلت ان ذلك لا يظهر من خلال النص. ولو كان كذلك، لقيل مثلا "وعلى الرئيس المصادقة على النتائج خلال سبعة ايام" فتصبح فرضا عليه (او عليها)، لا تخييرا.
وعلى كل حال فان الفقرة (رابعا) من المادة 136 قد اتخذت جانب الصواب بمنع التعديل في الصلاحيات الاتحادية بما ينتقص من صلاحيات الاقاليم، وهذا مبدأ يتماشى كليا مع الفدرالية واللامركزية. الا ان المشكلة ان الفدرالية نفسها هي محط خلاف، واذا اريد تعديل الدستور لحذفها او تعديلها، فستكون هذه الفقرة من اكبر العوائق.
اننا لا ندعو الى آلية بسيطة في تعديل الدستور، لاننا ندرك ان ذلك سيؤدي الى عدم الاستقرار الدستوري من خلال التعديلات المستمرة عليه. ولكننا في نفس الوقت نعجب لجعل التعديل بهذه الصعوبة، وهو الدستور الاول الذي تعيه الذاكرة العراقية. وكان الاجدر ان تفرض صيغة لتعديله مشابهة لصيغة اقراره، وهي الواردة في الفقرة (ج) من المادة 61 من قانون ادارة الدولة المؤقت والتي تنص : " يكون الاستفتاء العام ناجحا، ومسودة الدستور مصادقا عليها، عند موافقة اكثرية الناخبين في العراق، واذا لم يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات او اكثر"، مع استبدال كلمة (مسودة) بكلمة (تعديل). حيث ان هذه الصيغة تضمن حصول الاغلبية على حقها في اقرار التعديل، كما انها تتيح للاقليات ان تحتج او تعترض على التعديل اذا كانت من شأنه ان يلحق ضررا بمصالحها.
كما يمكن ان يتولى مجلس النواب هذه العملية برمتها، بالطريقة التي حددها قانون ادارة الدولة لتعديله، والواردة في المادة الثالثة (أ): "ولا يجوز تعديل هذا القانون الا بأكثرية ثلاثة ارباع اعضاء الجمعية الوطنية، وإجماع مجلس الرئاسة..."، وباضافة مجلس الوزراء ان شئت. وربما كان هذا هو الخيار الافضل في الوقت الراهن، طالما كان اجراء الاستفتاء امرا غاية في الصعوبة، وينطوي على مخاطر امنية، تقلل من فرص المشاركة الجماهيرية الواسعة. كما ان شعبنا لازال حديث العهد بالديمقراطية، ويتأثر بالاعلام بشكل مبالغ فيه، وبالتالي يمكن استغلاله لتحقيق طموحات مرحلية لبعض السياسيين، دون الالتفات الى المصلحة الوطنية العليا.

Tuesday, September 06, 2005

الدين والدولة في الدستور المقترح

بعد طول انتظار، وتمديد يتلوه آخر، ومفاوضات شاقة لا يبدو أنها كانت متكافئة، قدمت المسودة النهائية للدستور المقترح إلى الجمعية الوطنية. ورغم ان ذلك في مقاييس الزمن يعتبر إنجازا يستحق الثناء والعرفان، إلا ان الوثيقة التي قدمت لا يمكن ان توصف بالكمال، ولا حتى بالانسجام، لا من حيث المبادىء التي تضمنتها ولا الصياغات التي عبرت عنها.
ودائما سيكون عذر الزمن القصير تعليلا لبعض الأخطاء على اختلاف تأثيرها. ولكن كيف يمكن تدارك هذه الأخطاء عند عرضها على الشعب العراقي للاستفتاء؟ هل هناك آلية مراجعة طيلة فترة الشهر والنصف المتبقية؟ هل ان النقد الذي سيلي هذه السطور سيجد آذانا صاغية؟ لست ادري، ولكنني، طالما أني لم أشارك في وضع المسودة، أجد نفسي ملزما في طرح وجهة نظري.
ولا أريد في هذه العجالة ان اسرد البنود الكثيرة التي اختلف معها، ولكن رأيت ان ابحث واحدة من أكثر المسائل عقدية، والتي نالت نصيبا كثيرا من التفاوض، والحديث العام والخاص. تلك هي دور الدين في الدولة، والتي تحدثت عنها المادة الثانية، بما نصه:
"أولا- الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع :
أ- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.
ب- لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية.
ج- لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور.
ثانياً- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية. "
وأكاد أرى مجلسا للنواب يستعمل هذه المادة في تبرير أي قرار يصدره. وسيعمل كل حزب، وطائفة، وكتلة على ان يكون مشروع القرار الذي يقدمه مستندا إلى تلك المادة، بغض النظر عن كون تلك الكتلة أو الحزب متدينة أو علمانية، متطرفة أو اشتراكية، مؤمنة أو لا أدرية. والسبب واضح وجلي، أوليس القانون يجب ان لا يعارض الشريعة؟ أوليس القانون يجب ان لا يعارض الديمقراطية؟ فكيف يمكن ان يلتقيا؟
بادىء ذي بدء، لنعود إلى تعريف الديمقراطية كما أصبح متعارفا بشكل واسع: حكومة تمثل الشعب تعمل من اجل الشعب تنتخب من الشعب. وهذا يعني ان الشعب هو مصدر السلطات وهو الحكم النهائي عن طريق صندوق الاقتراع. ان الشعوب لا تصنع القوانين، ولكنها تتفاعل معها. والقانون الذي يسنه أي مجلس ممثل للشعب يجد مناصرين ومعارضين. وفي النهاية تتحكم الأغلبية. والأغلبية تعني أغلبية نواب البرلمان المنتخب بشكل عادل وشرعي، وليست أغلبية الطوائف التي تشكل نسيج المجتمعات. فلا يمكن -مثلا- إصدار قانون في برلمان المملكة المتحدة من شأنه ان يلحق أذى بالغا في أقلية عرقية أو اثنية، رغم انه قد يخدم مصلحة الأغلبية العددية المسيحية في تلك الدولة. ولا اقصد هنا مسألة حرية العقيدة والعبادة، فهي مكفولة في كل دساتير العالم، بل مسائل أخرى مثل الإقامة والعمل وما سواها.
والملاحظ ان لجنة صياغة الدستور استعملت الألفاظ (ثوابت أحكام الإسلام)، وليس (الشريعة الإسلامية) في محاولة لنفي استناد التشريع ككل على تلك الشريعة. والحقيقة ان هذه المفارقة اللغوية لا تنطلي على المتبصر، فالشريعة هي بالتأكيد مجموع ثوابت أحكام الإسلام. وليس هناك أشياء يفتي بها رجال الدين، ولا تعتبر من ثوابت الإسلام، والا كيف يطلب رجل الدين العمل بفتواه ان لم يتعبرها حكما ثابتا؟
من ناحية أخرى، يمكن ان يكون القانون متعارضا مع الشريعة الإسلامية، بطريقتين: مرة بسنه وأخرى بعدم سنه. لنفترض جدلا ان الشريعة الإسلامية واحدة، وهي ليست كذلك بحكم تعدد المذاهب، ولكن لنفترض حالات اتفقت عليها جميع المذاهب، فكيف سيتم الحكم على قانون مقترح انه موافق أو غير موافق للشريعة؟ إذا تقدم عدد من أعضاء مجلس النواب بمشروع قانون يمنع تصرفا معينا لوجود نص شرعي يحرمه، فهذا متوافق مع الشريعة تماما. ولكن هناك احتمال ان يسقط القانون لعدم حصوله على الأغلبية المطلوبة، فهل يعد عدم إصداره مخالفا للشريعة، وبالتالي مخالفا للدستور؟ وطالما كان النص المقدس غير قابل للجدل، فستكون الحجة حاضرة دائما لدى المتطرفين الذي سيدعون ان عدم إصدار القانون استنادا إلى هذا النص سيكون تعطيلا له، وبالتالي تعطيل للشريعة الإسلامية، ومن ثم انتهاكا للدستور. نعم، ان النص الدستوري يفترض الإيجاب، أي ان يكون هناك قانون صادر فعلا، وليس مشروعا ساقطا، ولكن المحتجون قد يجيبون بان النية في تطبيق الشريعة الإسلامية، بضمان عدم خرقها. وتعطيل النص المقدس سيكون خرقا واضحا لهذه الشريعة المحمية دستوريا.
أما إذا صدر هذا القانون المستند إلى الشريعة والنص المقدس، فلربما يحتج البعض بأنه مخالف لمبادىء الديمقراطية، وانتهاك للحرية الشخصية، إذا كان إتيان الفعل المشار إليه في أماكن خاصة، كالبيوت والنوادي التي يتفق روادها على أساليب وأفعال معينة ترضيهم هم دون باقي أفراد المجتمع، سيما إذا كانت هذه الأفعال مقبولة لدى بعض أفراد المجتمع خارج الأمكنة الخاصة أيضا. فكيف الخروج من هذا التناقض الذي تضمنه الدستور؟
مما لاشك فيه ان هناك نقاط التقاء كثيرة بين الشرائع عموما، والشريعة إسلامية خصوصا، مع مبادىء الديمقراطية. ولكن لا احد يدعى حصول انطباق كامل بينهما. فهناك تشريعات إسلامية لا تتوافق مع الديمقراطية، مثل الاسترقاق. وهناك حقوق اكتسبت من خلال تطبيق حرفي للديمقراطية تتعارض جوهريا مع مبادىء جميع الأديان مثل زواج المثليين. ومع ذلك، فان الشريعة الإسلامية تتميز بأنها دينامية، أي ان لها القدرة على مجاراة التطور الحاصل عبر الزمن. وكذلك يقال عن الديمقراطية أنها (رحلة وليست هدفا). وسرعة تطور أيا منهما تعتمد على الطبيعة الاجتماعية ورسوخ العادات والتقاليد الشعبية، كما تعتمد على الانفتاح على المجتمعات الأخرى والتواصل الثقافي الناتج بالضرورة عن التواصل الاقتصادي والسياسي. وهذا التفاضل قد يقود إلى مجابهة حتمية بين المجتمع ومعتقداته، وينعكس على عملية صنع القرار الذي يجب ان يتوافق –بالتعريف- مع الدستور.
على ان هناك الكثير من الخلافات بين المذاهب الإسلامية مما يجعل إصدار أي قانون عرضة للقول بأنه مخالف للشريعة في نظر بعضها وان كان موافقا لها في رأي البعض الآخر. فهل سنلجأ إلى إصدار قوانين تعمل على فئة معينة دون أخرى؟ وحتى لو فعلنا ذلك، كيف سنطبق تلك القوانين مع وجود أفراد منحدرين من كلا الفئتين؟
ان الديمقراطية، التي تتمثل في انتخابات عامة توصل من يثق به الشعب إلى البرلمان، يجب ان تكون هي الحكم الوحيد. إذ ان الناس عادة ينتخبون من يعتقدون انه الأصلح لتمثيلهم، والتعبير عن أفكارهم وطموحاتهم، ويدافع عن مصالحهم. فان كانت مصلحة الناخبين في قانون معين، فهو حتما يجب ان لا يصدم مع قناعاتهم الراسخة، أو عقيدتهم الدينية، أو توجهاتهم القومية. وإذا كان الناس متدينين فلن يرضوا بقانون يضرب دينهم عرض الحائط، وهم سيحتجون وسيفعلون كل ما يستطيعون لمنع صدوره، ولا يزال لديهم خيار صندوق الاقتراع لاختيار ممثلين آخرين بدلا عن الذين فرضوا عليهم ذلك القانون فيما سبق.
والديمقراطية تعني أيضا ان النواب المنتخبين يجب ان يكونوا قريبين من الشعب يستمعون له ويتناصحون معه، وهو ما يضمن عدم انفراد النواب بالقرار، بل عليهم الرجوع باستمرار إلى الشعب، من خلال ندوات الحوار المباشر، أو الاستماع إلى وجهات النظر التي تعلن عن طريق وسائل الإعلام، أو حتى من خلال تمكين الناس العاديين من المراسلة بالطرق التقليدية مع هؤلاء النواب. ومثل هذا التواصل كفيل ان يعرف النائب بما يتوجب عليه فعله. ولن يكون عليه ان يصوت لمشروع قرار، أو ان يتقدم بمشروع قرار بناء على دستورية هذا القانون، ولكن بناء على ما سمعه من أفراد الشعب الذي يمثله، أليسوا هم مصدر السلطات؟
على ان المغزى من إقحام الشريعة في نصوص الدستور ليس خفيا. فالانتخابات التي جاءت بأعضاء الجمعية الوطنية الحالية إنما بنيت أصلا على أساس ديني، واستعملت فيها الرموز الدينية كأدوات للدعاية الانتخابية. كما ان كثير من أعضاء الجمعية الحالية، وخصوصا القياديين الذي عملوا في مجلس الحكم السابق، سرعان ما انتقدوا قانون إدارة الدولة لعدم تضمنه فقرة تشير إلى دور الدين في الدولة. وهم الآن يواجهون ما انتقدوه، فان لم يشيروا إلى ذلك الدور، فسوف يتم تعريتهم، وإظهارهم كانتهازيين، يلعبون بعواطف الشعب من اجل مصالحهم السياسية الشخصية. ورغم ان الدولة الدينية لم تكن مطلبا حتى لأكثر الأحزاب الدينية تطرفا، إلا ان الدستور بتضمنه عبارة استناد القانون إلى الشريعة سوف يحقق لها جزءا مهما من طموحاتها غير المعلنة، ويدفعها خطوة إلى الأمام. فمن يدري، كيف سيكون شكل التعديل الأول بعد إقرار الدستور. ربما سيكون بحذف الفقرتين ب وج من المادة الثانية، ليصبح صدور كل قانون متجانسا كليا مع الشريعة، وتصبح الشريعة الإسلامية –وحدها- مصدرا للتشريع.