Tuesday, August 30, 2005

معضلة الامن بين العملية السياسية والفساد الاداري

يتميز العراق في الوقت الراهن بوضع فريد. فهو بلد محتل، ولكن بموافقة الامم المتحدة، وبطلب من حكومته المنتخبة شرعيا. ومع ان هناك من يعارض الوجود الاجنبي فيه، الا ان القوات المتعددة الجنسيات التي تجوب اراضيه ليست هي الهدف الرئيس للعمليات المسلحة. والهجمات الانتحارية شبه اليومية التي اتخذت من واقع الاحتلال ذريعة، اصبحت تطال مجموعة واسعة من الاهداف خارج نطاق القوات المحتلة، وان اتخذت تلك العمليات اسم الجهاد.
وفي ظل هذه الظروف المعقدة، يقبع الشعب خلف حاجز الخوف من المجهول، يجتر ابناؤه احزان الماضي، ولا يأملون كثيرا في المستقبل. ويعبر البعض عن خيبة الامل، بينما يحاول البعض الاخر تبرير النتائج بمسببات قديمة من سطوة النظام البائد، او بمؤامرة امبرالية ضد منطقة او طائفة او غير ذلك من الاساطير التي تنسي الهمّ الحاضر، وتخفف من الشعور بالمسؤولية التي تقع على عاتق الفرد.
والواقع ان اي تغيير من نظام الى اخر لاشك ان يكون عملية صعبة. وهذا التغيير ليس قابل للتطبيق في يوم واحد، او في عام واحد، او في عقد واحد احيانا. وقد اثبتت التجارب العالمية السابقة ان الطريق نحو الديمقراطية معبد بالدم والعرق والدموع. وقد كان يمكن الاستفادة من تلك التجارب لتعزيز المسيرة الديمقراطية في العراق، ولكن ما حدث كان على العكس، مع اختلاط اجندات مختلفة في المشهد السياسي. فقد ساهمت اطراف كثيرة في تأخير العملية السياسية الصحية في الوقت الذي يرفعون شعارها.
ولنبدأ من تسليم السلطة في اواخر حزيران 2004، حيث كان من المفترض ان يؤدي الى تحسن في الوضع الامني، خصوصا وان الحكومة المعينة بالتوافق بين مجلس الحكم، والحاكم المدني الامريكي والامم المتحدة حصلت في بداية تشكيلها على دعم شعبي ودولي لا بأس به. الا ان طغيان التناحر السياسي شلّ هذه الحكومة. لقد اصبحت مغلولة بالاستحقاقات المرتقبة والمجدولة زمنيا، ومهمشة داخليا تحت عنوان الحكومة المؤقتة. وسارت تحت وابل من الانتقادات المباشرة لذوي النفوذ، والمدعومين خارجيا.
ورغم ان معالجة الخلل الامني هي مسألة فنية، لكنها تحولت الى قضية سياسية، بدءا بالعلاقة مع دول الجوار التي بدا واضحا تورطها المباشر وغير المباشر في تعميق وترسيخ الانفلات الامني في عموم البلد. وزاد في ضراوة هذا الانفلات تشابك او تقاطع المصالح الذاتية للاحزاب والتيارات المتواجدة في الساحة الداخلية. ان العصيان المدني هو تجرأ على سلطة الدولة بغض النظر عن من يقوم به.. ولكن حينما ارادت حكومة اياد علاوي التصدي له، واجهت معارضة قوية بدعوى المصالحة الوطنية واحتواء كافة التيارات. وحينما ينادي علاوي بالمصالحة، ويسعى لاحتواء تيارات اخرى يواجه بمعارضة من نوع اخر ترفض محاورة من (تلوثت ايديهم بدماء الشعب) وذلك وصف مطلق للبعثيين، ويتعرض الى حملات دعائية منسقة، تصفه بالمتعاطف مع البعثيين كونه بعثي اصلا! ولست ادري كيف توزن الامور، ولكن من المعقول افتراض ان دماء الشعب واحدة، سواء انتهكها اتباع صدام او معارضيهم.
على كل حال سارت الامور حسب المنهج المقرر، وجرت الانتخابات كما اريد لها وفاز بها من طبّل لها، وظن الشعب ان الحكومة التي تمخضت عنها ستكون مطلقة اليد في التعامل مع التمرد والهجمات العشوائية. بيد ان نيل المطالب ليس بالتمني، وكان تأخر تشيكل حكومة الجعفري اول اشارة الى الفشل الامني. فحينما يكون البلد مهددا فليس هناك وقت للمفاوضات والمساومات حول السلطة. لكن الطموح الشخصي لبعض الرموز السياسية كان اكبر من الشعور بالمحنة الوطنية. وكانت النتيجة ان الخلل الامني بدأ يستفحل ويتحول الى دولة ظل ليس لها معالم ظاهرة للعيان ولكن اثارها كانت مدمرة.
نعم، لم تكن الانتخابات هي الحل. ولن تكون كتابة الدستور واقراره حلا كذلك. فالمسألة ليست متعلقة بمن يكون في السلطة، ولكن بمن يستطيع التصدي للتمرد. واقرار الامن ليس متعلقا بمشاركة كل اطياف الشعب في القرار بقدر وجود رغبة خالصة في التضحية واحداث التغيير. ومعلوم ان التمرد مدعوم من بعض دول مجاورة للعراق بعضها على المستوى الحكومي-المخابراتي وبعضها على المستوى الشعبي، على اختلاف الاهداف بينهما. ويتطلب مواجهة مثل هذه الائتلافات سلطة وطنية حازمة تعمل على توحيد الشعب وصهره في بوتقة واحدة بدلا من تفريقه باستخدام المحاصصات الطائفية والعرقية.
وقديما قيل اذا كان رب الدار...، ولعل هذا هو الوضع اليوم في العراق. فقد انعكس الفساد السياسي على اداء الدولة واوجد فسادا اداريا غير مسبوق. ومن العجب ان وزيرا في الحكومة الحالية، وقد كان نائبا لرئيس الوزراء في الحكومة السابقة، يتحدث في مؤتمر عالمي للدول المانحة للعراق عن الفساد الاداري كونه العائق الاول في اعمار العراق، فما الذي اتخذته الدولة لمكافحته؟ اننا نقر ان التصدي للفساد الاداري هو من اصعب الامور.. ولكن هناك حالات فاضحة وواضحة. نحن لا نتحدث عن شرطي يأخذ رشوة لغض النظر عن مخالفة مرورية. نحن نتحدث عن صهاريج منتجات نفطية تهرب خارج العراق بدل ان تسلك طريقها الى منافذ التوزيع. ونتحدث عن مقاولة جسر تمنح بدون عروض الى مقاول سبق وان سجن بتهمة الفساد الاداري في عهد دولة صدام التي خلنا انها فاسدة حتى النخاع.
وبالعودة الى الملف الامني، فماذا يجب على الدولة ان تفعل؟ لا ادعي انني خبير في مكافحة الارهاب، او ان لي باعا في مقارعة العصيان. ولكن يمكن على الاقل اتخاذ خطوط دفاعية تمنع الهجمات او تقلل من ضراوتها، لحين شن الهجوم المضاد. ولست اقصد المتاريس وما اشبه ذلك، بل التحصين الدفاعي اللوجستي. ويمكن رسم خطة بناء على اسلوب الهجمات او هدفها. فقد يكون صعبا منع السيارات المفخخة من استهداف اماكن عشوائية، خصوصا اذا قادها انتحاري. ولكن تعرض مطار المثنى بشكل دوري الى عملية انتحارية بحزام ناسف امر محير، اذ انه بالتأكيد يمكن التصدي له. وقد يكون صعبا منع المسلحين من التجوال في شوارع بغداد، ولكن نجاحهم المرة تلو الاخرى في اصطياد مسؤولي الدولة والسفراء واعضاء المجالس وغيرهم، بالقتل والاختطاف دون ان يتركوا أي اثر هو امر يدعو للرثاء.
ولابد ان العراق قد شهد اكثر من الف عملية مسلحة، ضد قوات التحالف والشرطة والجيش، وضد العديد من الاهداف المدنية التي تطول قائمتها. والسؤال هنا، كم من هذه العمليات جرى التحقيق فيها؟ هل شخصت عائدية السيارات المفخخة؟ هل حددت جنسيات واعمار وملامح الانتحاريين؟ هل تم التحقيق في مصادر تسريب المعلومات من داخل الاجهزة الامنية؟ هل تم حصر اماكن تواجد المشبوهين ومراقبتها؟ وغير ذلك من الاسئلة التي نستطيع من خلالها تتبع بعض الخيوط وجمع الادلة للتعرف على الفاعلين او من يسندهم.
لقد هاجم تسعة عشر انتحاريا برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن، وتم التعرف عليهم جميعا، كما تم التعرف على انتحاريي انفاق لندن. وهذا هو الحال في السعودية والكويت ومصر والباكستان وتركيا، وفي اماكن كثيرة اخرى تعرضت لهجمات ارهابية. وفي كل منها كان لابد من وجود دليل او اثر يقود للفاعلين، وبدراسة الادلة المتوافرة يمكن على الاقل التوصل لجنسية المهاجم ولجهة الدعم، مما يؤدي الى تقليل احتمالية الهجوم مرة ثانية.
ان الاعتراف بوجود الفساد الاداري ليس كافيا. يجب اتخاذ خطوات فورية للحد منه، لان تأثيره لا يقع فقط ضمن تخريب الاقتصاد الوطني، بل يتعداه الى تغذية وادامة الشبكات الارهابية التي تعمل في العراق. تلك الشبكات قد تكون حرة الى درجة انها اصبحت تشكل قاعدة عالمية لتصدير الارهاب. كما يجب المبادرة في التوقع لما يمكن ان يحصل بناءا على سيناريوهات سابقة. واغلاق الطرق الدائمي ونقاط التفتيش الثابتة ليست هي الحل. يجب ان تنبذ القوات الامنية كسلها، وتخف الى الحد من تباطؤها في التعامل مع الحدث. فاذا كانت المشكلة في التجهيزات، فتجب المبادرة الى توفيرها فورا. اما مشكلة التدريب، وهي التي طالما تعذرت بها القوات متعددة الجنسيات، فلابد من وجود بعض الوحدات في القوات الامنية قد تلقت تدريبا جيدا، واستطاعت ان تكسب خبرة جيدة خلال العامين المنصرمين. فيمكن الاستفادة من هذه الوحدات بنشرها في الوحدات الاقل تدريبا للاسراع في جهوزيتها ورفع مستوى ادائها. وفي النهاية فلكي نصل الى عراق امن، يجب ان يشعر كل مواطن ان هذا هو هدف الدولة، وهذا هو ما تجهد اجهزته الامنية للقيام به، وبالتالي يندفع للتعاون معها، ويتفاعل بالشكل الذي يحوله الى مساهم رئيس في اقرار الامن.