Monday, April 18, 2005

انحراف الديمقراطية: مناقشات سرية للجمعية الوطنية

انعقدت الجلسة الخامسة للجمعية الوطنية قبل فترة، وناقشت نظامها الداخلي دون اقراره في نفس الجلسة.. لتتحول مسألة النظام الداخلي فيما يلي من الزمن الى قضية تأخذ حيزها من الوقت والمناقشات كأي قضية اخرى اعترضت الجمعية، سواء قبل انعقادها او بعده. ويبدو ان الطابع السياسي الذي سيسم المرحلة القادمة من عمل الجمعية هو: ناقش وناقش ثم ناقش. على ان المناقشات، رغم اهميتها، الا انها في الواقع ليست صلب عمل الجمعية الوطنية كمجلس تشريعي.
المطلوب من اي مجلس تشريعي هو اتخاذ قرار، وهذا هو مقياس نجاح اعمال ذلك المجلس. فليست النقاشات امرا سيئا، ولكن الاقتصار عليها سيكون امرا بالغ السوء. فرجل الشارع، وربة البيت، والعامل في مصنعه، والموظف في مكتبه.. وكافة شرائح المجتمع الاخرى، يمكنها ان تناقش القضايا التي تثار في الساحة السياسية، وهو الحال ايضا في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. ويمكن للناس العاديين اقتراح حلول للمشاكل، وايجاد اليات للعمل على كافة المجالات تقريبا، في كثير من الاحيان. الا ان عضو البرلمان يتمتع بميزة اضافية. فهو لديه القدرة على اتخاذ قرار يضع هذه الحلول او الاليات المقترحة موضع التنفيذ.
وهكذا، فان اتخاذ القرار هو ما يؤدي الى حلول انية او بعيدة الامد للمشاكل التي يعاني منعا بعض او كل افراد الشعب. ومقياس عمل الجمعية الوطنية، كما اسلفنا، هو كمية القرارات التي اتخذتها. فاذا اجتمعت الجمعية خمس مرات، واتخذت عشرة قرارات فذلك قد يعد دليل صحة. اما اذا اجتمعت عشرات المرات دون قدرة على اتخاذ قرارات، فماذا الذي سيستفيد منه الشعب؟ سينتقل النقاش من الجميعة الى الشارع، وسيتخذ طابعا حزبيا توجيهيا في بعض الاحيان، او استخدام اطراف سياسية داخل الجمعية لضغوطات مصطنعة في الشارع، من المظاهرات والتحشيد الاعلامي الدعائي (البروباغاندا). ثم ما يلبث المجلس ان يتحول الى اداة لتنفيذ سياسيات جهة متنفذة فيه باغراقه بالعشرات من القضايا الخلافية للتمويه على قضية اساسية، ويمرر القانون اخيرا في غفلة من النواب، الذين تعبوا من المناقشة، ورضخوا للضغوط التي تصوروها، او صورت لهم.
واللافت من اجتماع الجمعية الخامس قيام رئيس الجمعية بتحويل الجلسة العلنية الى جلسة سرية اثناء انعقادها، وطلب من وسائل الاعلام المغادرة. وقد نوهت احدى فقرات النظام الداخلي الذي لم يكن قد اعتمد بعد، على حق الجمعية في الانعقاد سرا، وفي هذه الحالة يطلب عدم حضور وسائل الاعلام، او حتى موظفي الجمعية ويناط بنواب رئيس الجمعية مسوؤلية اعداد المحاضر وماسواها. وهذا امر غريب، فما الداعي في اي حال الى اجتماع الجميعة سريا؟ اذا كان الاجتماع هو لمناقشة امر ما، مهما يكن مهما او حرجا، فلماذا يعزل الشعب عنه، وكيف سنعرف اذا كان القرار الذي سيتخذ بناء مثل هذه الجلسات سيكون مبررا بشكل كاف؟ ولكن هل ستعلن نتائج هذا الاجتماع (السري) والقرارات المتمخضة عنه اصلا؟
في الديمقراطيات العالمية الرائدة، تعرف نوعان من الاجتماعات، الاجتماعات العلنية التي تكون متاحة لوسائل الاعلام والشعب فور حصولها. والاجتماعات المغلقة، تلك التي يطلب من وسائل الاعلام عدم نقلها، ولكن تعلن نتائجها فورا، وتعلن محاضر اجتماعتها بعد حين من الزمن، يوم او اسبوع او شهر.. ولكن ليس هناك مصطلح (اجتماع سري). وغالبا ما تكون الاجتماعات المغلقة لرفع الضغط الآني عن الاعضاء الذين يشعرون بعدم التمكن من اتخاذ موقف نتيجة لحملة سياسية تقاد ضدهم. وليس المقصود منها ان تناقش قضايا حساسة لا يجدر بالشعب، او حتى اقرب المقربين، المشاركة فيها. فكل مناقشة هي عامة.. وهي تبدأ من الشعب لتصل الى قبة البرلمان.. المكان الصحيح لاتخاذ اجراء بصددها. ويخيل اليّ ان الاجتماعات السرية هي اول وسيلة لعزل الشعب عن القرار بدواعي حساسية الموقف، والعذر الشائع المستخدم في هذه الحالات هو الموقف الامني الحرج.
ومع ذلك، فليست الجمعية الوطنية، كمجلس نيابي ممثل للشعب، هي من يخرق اولى قواعد الشفافية الحكومية. فعملها الرقابي يتضمن ان تطالب السلطة التنفيذية بكشف اوراقها ومساءلتها عن الامور التي يبدو انها لا تسير بشكل حسن، وبيان الاجراءات التي تتخذها الحكومة لمعالجة مشاكل ما، والخطوات التي تتخذها من اجل تنفيذ قرارات الجمعية. وكل هذه الامور تنصب في مقولة الشفافية الحكومية. فكيف ستكون السلطة التنفيذية شفافة اذا لم تكن السلطة التشريعية كذلك؟
وربما يعتقد بعض اعضاء الجمعية الوطنية انهم متميزون عن باقي الشعب، كونهم يطلعون على امور لا تتاح لبقية افراد الشعب. ولذلك فانهم ربما عليهم كتم هذه الامور للمصلحة العامة. وهذا خطأ فادح. فالمصلحة الوطنية العليا يقررها الشعب بنفسه، ويجب ان يحاط علما بكل شيء، الا اذا كان الاعلان عن بعض الحقائق يؤدي الى استفادة اطراف معادية للشعب منها وبالتالي تفويت الفرصة للتمكن منها. وهذه الامور تقرر من قبل السلطة التنفيذية عادة، وسيكون عليها ان تبرر سبب حجب الحقائق اذا ما تكشفت فيما يلي من الزمن. ولم يكن مطلوبا يوما ان تعلن اجتماعات مجلس الوزراء او اية سلطة تنفيذية اخرى، لا في العراق ولا في اي بلد من بلدان العالم.
ان من اهم مبادي الديمقراطية مبدأ الشفافية الحكومية، وهو ما نتوقعه من السلطة التنفيذية، والتي ستكون لاول مرة منتخبة في العراق. اما ان نفتقده في المجلس التشريعي المنتخب فتلك انتكاسة اخرى للديمقراطية. ويجب رفض اية صيغة للاجتماعات السرية، فما يصلح ان يطلع عليه 275 عضو، يصلح ان يطلع عليه خمس وعشرون مليون نسمة. ويجب شطب هذه الكلمة من نظام الجميعة الوطنية الداخلي، واحلال مصلطح الاجتماع المغلق بديلا عنها، على ان تعلن محاضر الجلسة المغلقة في وقت لاحق، ويكون جدول اعمال الاجتماع معلوما ومعلنا مسبقا، حتى يتاح للشعب الاطلاع عليه وتقييم اداء هذا المجلس.
واخيرا، فان صيغة الاجتماعات السرية (وحتى المغلقة) لم ترد في قانون ادارة الدولة، بل حددت المادة الثالثة والثلاثون (أ): "تكون اجتماعات الجمعية الوطنية علنية وتسجل محاضر اجتماعاتها وتنشر، ويسجل تصويت كل عضو من اعضاء الجمعية الوطنية ويعلن ذلك، وتتخذ القرارات في الجمعية الوطنية بالاغلبية البسيطة، الا اذا نص هذا القانون على غير ذلك." ومن الواضح ان المقصود بـ"هذا القانون" هو (قانون ادارة الدولة) وان الاستثناء هو بشأن التصويت على انتخاب مجلس الرئاسة ومجلس الوزراء واعادة القانون الذي نقضه مجلس الرئاسة وماشابه، وليس المقصود استثناء علنيّة الاجتماعات او تسجيل محاضرها ونشرها.

Wednesday, April 06, 2005

فدرالية ام حكم ذاتي: مسألة امام الدستور الدائم

حينما اصدر مجلس الحكم السابق قانون ادارة الدولة المؤقت، انتقل العراق لاول مرة منذ عقود الى دولة الدستور والقانون. وكان هذا التحول هو الابرز بين العديد من التحولات الديمقراطية التي شهدها منذ انهيار النظام الشمولي تحت مطرقة الحرب الامريكية ضد الارهاب. وقد حمل هذا الدستور الانتقالي لمحات فريدة شكلت انتقالة بالقانون الدستوري في العراق، وان تضمن بعض السلبيات. وقد يكون ذلك مفيدا، حيث ان المناقشات بشأن الدستور، والتي يفترض ان تشغل الحيز الاكبر خلال الفترة القادمة، لابد ان تنطلق من هذين الامرين: محاسن ومساويء قانون ادارة الدولة الانتقالي.
وقد اقر هذا القانون الاساسي مبدأ الفدرالية، او النظام الاتحادي، على اساس "الحقائق الجغرافية والتاريخية". ولعل تفسير هذه العبارة يمر عبر مضائق التحديد (العرقي) لنوع الفدرالية. ورغم ان المادة الرابعة، التي حددت هذا المبدأ، قد وضحت ان هذا النظام لا يقوم على اساس "الأصل أو العرق أو الاثنية أو القومية أو المذهب"، الا ان الحقائق الجغرافية في العراق، ببساطة، تحدد تجمعات عرقية او اثنية او قومية او مذهبية. ولعل هذا التناقض هو الذي يجعل الموقف الشعبي من الفدرالية متناقضا كذلك.
فالبعض يرى ان الفدرالية تفضي الى التقسيم، على اعتبار انها تفصل مكونات الشعب العراقي الرئيسة بعضها عن بعض مما سيؤدي في خاتمة المطاف الى انشاء دويلات عرقية ومذهبية تحطم وحدة العراق وتمحو هذا الاسم من قائمة الدول. على ان هناك اخرون يعتقدون ان الفدرالية خيار الشعب العراقي للبقاء تحت خيمة الوطن الواحد طالما اختارت فئاته طواعية ان تبقى فيه مع توفير خصوصيات لاطيافه المتعددة ضمن اقاليمها دون ان يؤدي ذلك الى انفصالها عن الوطن الام. اذ يبقى المصير المشترك لكل هذه الاطياف والمصالح المتبادلة بينها هاجسها الدائم ودافعها الرئيس في السعي للمحافظة على الوحدة الوطنية.
على ان الفدرالية لم تكن يوما خيارا للحكم الذاتي، لطائفة او عرق او مذهب. فهي في الحقيقة مجرد ايجاد الية محلية في المناطق، تناظر وتوازن السلطة المركزية من اجل ضمان التمثيل العادل لسكان تلك المناطق والمطالبة بحقوقهم. ويبقى الاقليم خاضعا للحكومة المركزية ضمن صلاحيات تحدد في دستوره، الذي يحدد بالمقابل صلاحيات الحكومات المحلية. وهذا ما حدد بوضوح في قانون ادارة الدولة في العديد من المواد منها المادة الخامسة والعشرون التي حددت الصلاحيات الحصرية للحكومة المركزية، والمادة الثانية والخمسين وما بعدها والتي فصلت صلاحيات حكومات الاقليم.
ومن جهة اخرى، فان الدولة الفدرالية تكون مكونة من اثنين او اكثر من الاقاليم.. اذ لا معنى لان يكون احد الاقاليم فدراليا، بينما لا يكون غيره كذلك. اما الاقاليم التي تتمتع بالحكم الذاتي، فالامر ليس كذلك. فالحكومة المركزية عادة لا تتمتع بنفس السلطات الفدرالية، وتكون المنطقة ذات الحكم الذاتي مكونة من غالبية من عرق او طائفة ما، وهي مناطق ذات وضع خاص لا يشمل حالها جميع مناطق البلاد.
وفي مسيرة التاريخ، نجد الكثير من المناطق ذات الحكم الذاتي ربما تمردت لاحقا مطالبة بانفصالها. اذ غالبا ما تلتف الحكومات المركزية على وضع هذه الاقاليم وتمارس نوعا من التضييق وانتهاك المعاهدات التي بموجبها وضع هذا الحكم الذاتي موضع التنفيذ. او يحدث ان يسيطر بعض الطموحين على مقاليد الامور في هذه الاقاليم، حيث يدفعهم هذا الطموح الى الاستقلال على اختلاف الطرق المتبعة لتحقيق ذلك.
ومن المعروف ان المطالبة بالفدرالية في العراق جاءت بالدرجة الاولى من الاكراد العراقيين، الذين اعتبروها ضمانة ضد اضطهاد (العرب) لهم مجددا. وتنشأ المخاوف لدى (باقي العراقيين) من كون منطقة الاكراد قد تمتعت بالفعل بالحكم الذاتي طيلة عقود، وان كان صوريا احيانا، مما ميز هذه المنطقة بوضع خاص. ويزيد من الامر تعقيدا ان الاكراد لا يسعون الى تهدئة هذه المخاوف، الا لماما.. بالتصريحات التي يطلقها زعماؤهم بين حين واخر حول رغبتهم (الطوعية) للبقاء ضمن الخيمة الوطنية العراقية. بينما تشهد الوقائع على الرغبة الجادة في الانفصال، والتي من اوضحها الاستفتاء الذي اجري في اقليم كردستان بالتزامن مع الانتخابات الماضية، والذي تمخض عن رغبة غالبية الشعب الكردي في الانفصال. كما ان الاكراد لايخفون رغبتهم الشديدة في ضم كركوك الى منطقتهم ويطالبون بحصص من عائدات النفط، بل انهم يحتفظون بجيشهم الخاص ويرفضون تواجد الجيش الوطني على ارضهم!
ربما يدعي البعض ان هذه المطالبات هي مرحلية وناشئة عن اضطهاد الاكراد من قبل الحكومات (العربية) المركزية طوال عهود من الزمن، وهي لا تعدو كونها ردة فعل لا اكثر. الا ان هذا مردود بان من مارس الاضطهاد ضد الاكراد قد مارسه ضد غيرهم ايضا.. ولا تكاد تكون هناك فئة في الشعب العراقي لم ينالها نصيب من الظلم والجور والحيف، يناظر او ربما يفوق ما تعرض له الاكراد. وتلك الحكومات السالفة وان كان (عربية) الا ان افعالها ليست تلبية لشعارات او استحقاقات (عربية) او شعبية باي حال. على ان طبيعة النظام الجديد تختلف كليا عن جميع الانظمة الماضية التي تولت الحكم في العراق. فالنظام الديمقراطي يشتمل على اليات محكمة، تمنع سيطرة فئة ما على مقاليد الحكم، وبالتالي تعرض الفئات الاخرى الى اي نوع من الاضطهاد.
وفي الحقيقة، فاننا نجد اشارات سلبية من موقف الاكراد كما يبدو لنا من خلال وسائل الاعلام. فهم بحكم كونهم قد نالوا قسطا وافرا من الحرية قبل باقي اخوانهم العراقيين بعقد من الزمن، وقد تمكنوا من بناء ديمقراطيتهم الخاصة في تلك الفترة واختبروها وهذبوها من خلال الانتخابات الدورية. ولكنهم رغم ذلك، لا يبدون مهتمين جدا في نشر تلك الخبرة الى باقي العراق، بل ويتصرفون على عكس تلك المباديء الديمقراطية. ولا اجد مبررا لذلك سوى الرغبة في الانفصال، سواء الان او بعد حين.
اننا في مرحلة كتابة الدستور، ولذلك يجب ان نعي حقيقة اساسية: اذا كنا نسعى الى عراق فدرالي، فيجب ان تتواجد مناطق فدرالية دستورية، يكون اقليم كردستان احدها. او على الاقل تعامل جميع مناطق العراق ما عدا كردستان على انها اقليم مناظر. بمعنى ان يكون لها مجلس اقليم وحاكما للاقليم وصلاحيات دستورية لكليهما. اما اذا اذا اتجهت النية الى منح اقليم كردستان وضعا خاصا، فيجب ان يكون ذلك ضمن اتفاقية حكم ذاتي، لا كونها اقليما فدراليا. ويجب الانتباه الى ان اتفاقية للحكم الذاتي سوف تحرم الاكراد من حقهم في المشاركة في الحكومة الوطنية، مقابل حصولهم على قدر اكبر في ادارة شؤون منطقتهم. والحكم الذاتي ربما يكون نظاما موروثا عن حقبة سابقة، ولم تثبت التجارب العالمية تجاحه على نطاق واسع. فلا نجد مبررا لاعتماد هذا الاسلوب.. ولكننا نحذر من الخلط بين الفدرالية التي يمكن لها ان تكون بين اي تجمعات سكانية ذات مصالح مشتركة، وبين خصوصيات معينة وجدت تحت عنوان الحكم الذاتي.